صفحة جزء
فصل : ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت ، فيؤمنون بفتنة القبر ، وبعذاب القبر ونعيمه ، فأما الفتنة ، فإن الناس يمتحنون في قبورهم ، فيقال للرجل : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فيقول المؤمن : ربي الله ، والإسلام ديني ، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي ، وأما المرتاب ، فيقول : هاه هاه ؛ لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ، [ ص: 62 ] فيضرب بمرزبة من حديد ، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعها الإنسان لصعق ، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب ، إلى أن تقوم القيامة الكبرى ، فتعاد الأرواح إلى الأجساد .

وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، وأجمع عليها المسلمون ، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا ، وتدنو منهم الشمس ، ويلجمهم العرق ، فتنصب الموازين ، فتوزن بها أعمال العباد ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون .

وتنشر الدواوين ، وهي صحائف الأعمال ، فآخذ كتابه بيمينه ، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، كما قال سبحانه وتعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .

ويحاسب الله الخلائق ، ويخلو بعبده المؤمن ، فيقرره بذنوبه ، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة .

وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته ؛ فإنه لا حسنات لهم ، ولكن تعد أعمالهم ، فتحصى ، فيوقفون عليها ويقررون بها .

وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته عدد نجوم السماء ، طوله شهر ، وعرضه شهر ، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا .

[ ص: 63 ] والصراط منصوب على متن جهنم ، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالفرس الجواد ، ومنهم من يمر كركاب الإبل ، ومنهم من يعدو عدوا ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يخطف خطفا ويلقى في جهنم ؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ، فمن مر على الصراط دخل الجنة .

فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة .

وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته .

وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات : أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء ؛ آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه .

وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .

وهاتان الشفاعتان خاصتان له .

وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار ، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم ، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها ، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها .

ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة ؛ بل بفضله ورحمته ، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا ، فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة .

[ ص: 64 ] وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء ، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء ، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي ، فمن ابتغاه وجده .

وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره .

والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين .

فالدرجة الأولى : الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق ، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا ، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ، فأول ما خلق الله القلم قال له : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، جفت الأقلام ، وطويت الصحف ؛ كما قال تعالى : ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ، وقال : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا : فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء ، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيقال له : اكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، ونحو ذلك ، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ، ومنكره اليوم قليل .

[ ص: 65 ] وأما الدرجة الثانية ؛ فهي مشيئة الله النافذة ، وقدرته الشاملة ، وهو : الإيمان بأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه ، لا يكون في ملكه ما لا يريد ، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات ، ما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه ، لا خالق غيره ، ولا رب سواه ، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ، ونهاهم عن معصيته .

وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا يحب الكافرين ، ولا يرضى عن القوم الفاسقين ، ولا يأمر بالفحشاء ، ولا يرضى لعباده الكفر ، ولا يحب الفساد .

والعباد فاعلون حقيقة ، والله خلق أفعالهم ، والعبد هو : المؤمن ، والكافر ، والبر ، والفاجر ، والمصلي ، والصائم .

وللعباد قدرة على أعمالهم ، ولهم إرادة ، والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم ، كما قال تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .

وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم : مجوس هذه الأمة ، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات ، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها .

التالي السابق


الخدمات العلمية