صفحة جزء
( وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن ، حيث يقول : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) .


ش قوله : ( وقد دخل . . إلخ ) شروع في إيراد النصوص من الكتاب والسنة المتضمنة لما يجب الإيمان به من الأسماء والصفات في النفي والإثبات .

وابتدأ بتلك السورة العظيمة ؛ لأنها اشتملت من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيرها ، ولهذا سميت سورة الإخلاص ؛ لتجريدها التوحيد من شوائب الشرك والوثنية .

روى الإمام أحمد في ( مسنده ) عن أبي بن كعب رضي الله عنه في سبب نزولها : أن المشركين قالوا : يا محمد ، انسب لنا ربك . فأنزل الله تبارك وتعالى : قل هو الله أحد الله الصمد إلخ السورة .

[ ص: 113 ] وقد ثبت في الصحيح أنها تعدل ثلث القرآن .

وقد اختلف العلماء في تأويل ذلك على أقوال ، أقربها ما نقله شيخ الإسلام عن أبي العباس ، وحاصله أن القرآن الكريم اشتمل على ثلاثة مقاصد أساسية : أولها : الأوامر والنواهي المتضمنة للأحكام والشرائع العملية التي هي موضوع علم الفقه والأخلاق .

ثانيها : القصص والأخبار المتضمنة لأحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم ، وأنواع الهلاك التي حاقت بالمكذبين لهم ، وأحوال الوعد والوعيد ، وتفاصيل الثواب والعقاب .

ثالثها : علم التوحيد ، وما يجب على العباد من معرفة الله بأسمائه وصفاته ، وهذا هو أشرف الثلاثة .

ولما كانت سورة الإخلاص قد تضمنت أصول هذا العلم ، واشتملت عليه إجمالا ؛ صح أن يقال : إنها تعدل ثلث القرآن .

[ ص: 114 ] وأما كيف اشتملت هذه السورة على علوم التوحيد كلها ، وتضمنت الأصول التي هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي ؟ فنقول :

إن قوله تعالى : الله أحد دلت على نفي الشريك من كل وجه : في الذات ، وفي الصفات ، وفي الأفعال ؛ كما دلت على تفرده سبحانه بالعظمة والكمال والمجد والجلال والكبرياء ، ولهذا لا يطلق لفظ ( أحد ) في الإثبات إلا على الله عز وجل ، وهو أبلغ من واحد .

وقوله : الله الصمد قد فسرها ابن عباس رضي الله عنه بقوله : ( السيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغني الذي قد كمل في غناه ، والجبار الذي قد كمل في جبروته ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل ، هذه صفته ، لا تنبغي إلا له ، ليس له كفء ، وليس كمثله شيء ) .

[ ص: 115 ] وقد فسر الصمد أيضا بأنه الذي لا جوف له ، وبأنه الذي تصمد إليه الخليقة كلها وتقصده في جميع حاجاتها ومهماتها .

فإثبات الأحدية لله تضمن نفي المشاركة والمماثلة .

وإثبات الصمدية بكل معانيها المتقدمة تتضمن إثبات جميع تفاصيل الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وهذا هو توحيد الإثبات .

وأما النوع الثاني وهو توحيد التنزيه ؛ فيؤخذ من قوله تعالى : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد كما يؤخذ إجمالا من قوله : الله أحد ؛ أي : لم يتفرع عنه شيء ، ولم يتفرع هو عن شيء ، وليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير .

فانظر كيف تضمنت هذه السورة توحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم غناه وصمديته وأحديته ، ثم نفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والنظير ؟ فحق لسورة تضمنت هذه المعارف كلها أن تعدل ثلث القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية