صفحة جزء
( وقوله : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، وقوله : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، وقوله : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص .


ش تضمنت هذه الآيات إثبات أفعال له تعالى ناشئة عن صفة المحبة ، ومحبة الله عز وجل لبعض الأشخاص والأعمال والأخلاق صفة له قائمة به ، وهي من صفات الفعل الاختيارية التي تتعلق بمشيئته ، فهو يحب بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة .

وينفي الأشاعرة والمعتزلة صفة المحبة ؛ بدعوى أنها توهم نقصا ؛ إذ المحبة في المخلوق معناها ميله إلى ما يناسبه أو يستلذه .

[ ص: 135 ] فأما الأشاعرة ؛ فيرجعونها إلى صفة الإرادة ، فيقولون : إن محبة الله لعبده لا معنى لها إلا إرادته لإكرامه ومثوبته .

وكذلك يقولون في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط ؛ كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب .

وأما المعتزلة ؛ فلأنهم لا يثبتون إرادة قائمة به ، فيفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله لهؤلاء ؛ بناء على مذهبهم في وجوب إثابة المطيع وعقاب العاصي .

وأما أهل الحق ؛ فيثبتون المحبة صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به ، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها .

كما يثبتون لازم تلك المحبة ، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته .

وليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة : إن الله إذا أحب عبدا ؛ قال لجبريل عليه السلام : إني أحب فلانا فأحبه ، قال : فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء : إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ويوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغضه فمثيل ذلك ، رواه الشيخان ؟ ! [ ص: 136 ] وقوله تعالى في الآية الأولى : ( وأحسنوا ) أمر بالإحسان العام في كل شيء ؛ لا سيما في النفقة المأمور بها قبل ذلك ، والإحسان فيها يكون بالبذل وعدم الإمساك ، أو بالتوسط بين التقتير والتبذير ، وهو القوام الذي أمر الله به في سورة الفرقان .

روى مسلم في ( صحيحه ) عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته .

وأما قوله : إن الله يحب المحسنين فهو تعليل للأمر بالإحسان ، فإنهم إذا علموا أن الإحسان موجب لمحبته ؛ سارعوا إلى امتثال الأمر به .

وأما قوله في الآية الثانية : ( وأقسطوا ) ؛ فهو أمر بالإقساط ، وهو العدل في الحكم بين الطائفتين المتنازعتين من المؤمنين ، وهو من قسط إذا جار ، فالهمزة فيه للسلب ، ومن أسمائه تعالى : المقسط .

[ ص: 137 ] وفي الآية الحث على العدل وفضله ، وأنه سبب لمحبة الله عز وجل .

وأما قوله تعالى : فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ؛ فمعناه : إذا كان بينكم وبين أحد عهد كهؤلاء الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام ؛ فاستقيموا لهم على عهدهم مدة استقامتهم لكم ، فـ ( ما ) هنا مصدرية ظرفية .

ثم علل ذلك الأمر بقوله : إن الله يحب المتقين ؛ أي : يحب الذين يتقون الله في كل شيء ، ومنه عدم نقض العهود .

وأما قوله : إن الله يحب التوابين . . إلخ ؛ فهو إخبار من الله سبحانه وتعالى عن محبته لهذين الصنفين من عباده .

أما الأول : فهم التوابون ؛ أي : الذين يكثرون التوبة والرجوع إلى الله عز وجل بالاستغفار مما ألموا به على ما تقتضيه صيغة المبالغة ، فهم بكثرة التوبة قد تطهروا من الأقذار والنجاسات المعنوية التي هي الذنوب والمعاصي .

وأما الثاني : فهم المتطهرون الذين يبالغون في التطهر ، وهو التنظيف بالوضوء أو بالغسل من الأحداث والنجاسات الحسية ، وقيل : المراد بالمتطهرين هنا الذين يتنزهون من إتيان النساء في زمن الحيض أو في أدبارهن ، والحمل على العموم أولى .

وأما قوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ؛ فقد روي عن الحسن في سبب نزولها أن قوما ادعوا أنهم يحبون الله ، فأنزل [ ص: 138 ] الله هذه الآية محنة لهم .

وفي هذه الآية قد شرط الله لمحبته اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينال تلك المحبة إلا من أحسن الاتباع والاستمساك بهديه عليه السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية