[ ص: 282 ]  [ ص: 283 ] الجزء الثاني   
[ ص: 284 ]  [ ص: 285 ] فصل  
في كسر الطاغوت الثالث  
الذي وضعته  
الجهمية   ، لتعطيل حقائق الأسماء والصفات ،  
وهو طاغوت  
المجاز  
هذا الطاغوت لهج به المتأخرون ، والتجأ إليه المعطلون ، وجعلوه جنة يترسون بها من سهام الراشقين ويصدرون عن حقائق الوحي المبين ، فمنهم من يقول :  
الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا     .  
ومنهم من يقول : الحقيقة هي المعنى الذي وضع له اللفظ أولا ،  
والمجاز استعمال اللفظ فيما وضع له ثانيا     .  
فهاهنا ثلاثة أمور : لفظ ومعنى واستعمال ، فمنهم من جعل مورد التقسيم هو الأول ، ومنهم من جعله الثاني ، ومنهم من جعله الثالث ، والقائلون حقيقة اللفظ كذا ومجازه كذا يجعلون الحقيقة والمجاز من عوارض المعاني .  
فإنهم إذا قالوا مثلا : حقيقة الأسد هو الحيوان المفترس ، ومجازه الرجل الشجاع ، جعلوا الحقيقة والمجاز للمعنى لا للألفاظ ، وإذا قالوا : هذا الاستعمال حقيقة ، وهذا الاستعمال مجاز جعلوا ذلك من توابع الاستعمال ، وإذا قالوا هذا اللفظ حقيقة في كذا ، مجاز في كذا جعلوا ذلك من عوارض الألفاظ ، وكثير منهم في كلامه هذا وهذا وهذا .  
والمقصود أنهم سواء قسموا اللفظ ومدلوله أو استعماله في مدلوله طولبوا بثلاثة أمور : أحدها : تعيين ورود التقسيم ، الثاني : صحته بذكر ما تشترك فيه الأقسام وما ينفصل وما يتميز به ، فلا بد من ذلك المشترك والمميز ضرورة صحة التقسيم الثالث : التزام الطرد والعكس ، فإن التقسيم من جنس التحديد ، إذ هو مشتمل على القدر المشترك والقدر المميز الفارق فإن لم يطرد التقسيم وينعكس كان تقسيما فاسدا .  
فنقول : تقسيمكم الألفاظ ومعانيها واستعمالها فيها إلى حقيقة ومجاز ، إما أن يكون عقليا أو شرعيا ، أو لغويا أو اصطلاحيا ، والأقسام الثلاثة الأول باطلة ، فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول عليه حقيقة كان أو مجازا ، فإن دلالة اللفظ على معناه وليست كدلالة الانكسار على الكسر والانفعال على الفعل لو كانت عقلية لما اختلفت باختلاف الأمم ولما جهل أحد معنى لفظ ، والشرع لم يرد      
[ ص: 286 ] بهذا التقسيم ولا دل عليه ، ولا أشار إليه ، وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ، ولا وجد فى كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ولا بواسطة ذلك ، ولهذا لا يوجد في كلام  
الخليل   nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه   nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء   nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبي عمرو بن العلاء   nindex.php?page=showalam&ids=13721والأصمعي  وأمثالهم ، كما لم يوجد ذلك في كلام رجل واحد من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين ، ولا فى كلام أحد من الأئمة الأربعة .  
وهذا  
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  وكثرة مصنفاته ومباحثه مع  
محمد بن الحسن  وغيره لا يوجد فيها ذكر المجاز البتة ، وهذه رسالته التي هي كأصول الفقه لم ينطق فيها بالمجاز في موضع واحد ، وكلام الأئمة مدون بحروفه لم يحفظ عن أحد منهم تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز ، بل أول من عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز  
 nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة معمر بن المثنى  ، فإنه صنف في تفسير القرآن كتابا مختصرا سماه مجاز القرآن ، وليس مراده به تقسيم الحقيقة ، فإنه تفسير لألفاظه بما هي موضوعة له ، وإنما عنى بالمجاز ما يعبر به من اللفظ ويفسر به ، كما سمى غيره كتابه معاني القرآن ، أي : ما يعنى بألفاظه ويراد بها ، كما يسمي  
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري  وغيره ذلك تأويلا ، وقد وقع في كلام  
أحمد  شيء من ذلك ، فإنه قال في ( الرد على  
الجهمية   فيما شكت فيه من متشابه القرآن وأما قوله : (  
إني معكم     ) فهذا من مجاز اللغة ، يقول الرجل للرجل : سيجري عليك رزقك ، أنا مشتغل به ، وفي نسخة ، وأما قوله : (  
إنني معكما أسمع وأرى     ) فهو جائز في اللغة ، يقول الرجل للرجل : سأجري عليك رزقك وسأفعل بك خيرا .  
قلت : مراد  
أحمد  أن هذا الاستعمال مما يجوز في اللغة ، أي هو من جائز اللغة لا من ممتنعاتها ، ولم يرد بالمجاز أنه ليس بحقيقة وأنه يصح نفيه ، وهذا كما قال  
أبو عبيدة  في تفسيره إنه مجاز القرآن ، ومراد  
أحمد  أنه يجوز في اللغة أن يقول الواحد      
[ ص: 287 ] المعظم نفسه ، نحن فعلنا كذا ، فهو مما يجوز في اللغة ، ولم يرد أن في القرآن ألفاظا استعملت في غير ما وضعت له ، وأنها يفهم منها خلاف حقائقها ، وقد تمسك بكلام  
أحمد  هذا من ينسب إلى مذهبه أن  
في القرآن مجازا   nindex.php?page=showalam&ids=14953كالقاضي أبي يعلى  وابن عقيل  وابن الخطاب  وغيرهم ، ومنع آخرون من أصحابه ذلك ،  
كأبي عبد الله بن حامد  ،  
وأبي الحسن الجزري   nindex.php?page=showalam&ids=11894وأبي الفضل التميمي     .  
وكذلك أصحاب  
مالك  مختلفون ، فكثير من متأخريهم يثبت في القرآن مجازا ، وأما المتقدمون  
كابن وهب  وأشهب  وابن القاسم  فلا يعرف عنهم في ذلك لفظة واحدة .  
وقد صرح بنفي المجاز في القرآن  
محمد بن خواز منداد البصري المالكي  وغيره من المالكية ، وصرح بنفيه  
 nindex.php?page=showalam&ids=15858داود بن علي الأصبهاني  وابنه  
أبو بكر  ،  
 nindex.php?page=showalam&ids=17150ومنذر بن سعيد البلوطي  ، وصنف في نفيه مصنفا ، وبعض الناس يحكي في ذلك عن  
أحمد  روايتين .  
وقد أنكرت طائفة أن يكون في اللغة مجاز بالكلية ،  
 nindex.php?page=showalam&ids=11812كأبي إسحاق الإسفرائيني  وغيره ، وقوله : له غور لم يفهمه كثير من المتأخرين ، وظنوا أن النزاع لفظي ، وسنذكر أن مذهبه أسد وأصح عقلا ولغة من مذهب أصحاب المجاز ، وطائفة أخرى غلت في ذلك الجانب وادعت أن أكثر اللغة مجاز ، بل كلها ، وهؤلاء أقبح قولا وأبعد عن الصواب من قول من نفى المجاز بالكلية ، بل من نفاه أسعد بالصواب .