مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السادس : أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لا يدل على وجود المجاز ، بل ولا على مكانه ، فإن التقسيم لا يدل على ثبوت كل واحد من الأقسام في الخارج ، ولا على إمكانها ، فإن التقسيم يتضمن حصر المقسوم في تلك الأقسام ، هي أعم من أن تكون موجودة أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة ، فهاهنا أمران : أحدهما : انحصار المقسوم في أقسامه ، وهذا يعرف بطرق :

منها أن يكون التقسيم دائرا بين النفي والإثبات ، ومنها أن يجزم العقل بنفي قسم آخر غيرها ، ومنها أن يحصل الاستقراء التام المفيد للعلم ، أو الاستقراء المفيد للظن .

والثاني : ثبوت تلك الأقسام أو بعضها في الخارج ، وهذا لا يستفاد من التقسيم ، بل يحتاج إلى الدليل منفصل يدل عليه ، وكثير من أهل النظر يغلط في هذا الموضع ، ويستدل بصحة التقسيم على الوجود الخارجية وإمكانه ، وهذا غلط محض ، كما يغلط كثير منهم في حصر ما ليس بمحصور ، فإن الذهن يقسم المعلوم إلى موجود ومعدوم ، . وما ليس بموجود ولا معدوم ، والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ، وإما لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره ، وإما قائم بنفسه وغيره ، وإما داخل العالم أو خارجه ، أو داخله ، أو داخله وخارجه ، أو لا داخله ولا خارجه ، وأمثال ذلك من التقسيمات الذهنية التي يستحيل ثبوت بعض أقسامها في الخارج .

إذا عرف ذلك فالذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز إن أرادوا بذلك التقسيم الذهني لم يفدهم ذلك شيئا ، وإن أرادوا التقسيم الخارجي لم يكن معهم دليل يدل على وجود الجميع في الخارج سوى مجرد التقسيم ، وهو لا يفيد الثبوت الخارجي ، [ ص: 291 ] فحينئذ لا يتم لهم مطلوبهم حتى يثبتوا أن هاهنا ألفاظا وضعت لمعان حتى تقلب عنها به بوضع ثان على معان أخر غيرها ، وهذا مما لا سبيل لأحد إلى العلم به .

الوجه السابع : أن تقسيم الألفاظ إلى ألفاظ مستعملة فيما وضعت له ، وألفاظ مستعملة في غير ما وضعت له تقسيم فاسد يتضمن إثبات الشيء ونفيه ، فإن وضع اللفظ للمعنى هو تخصيصه به بحيث إذا استعمل فهم منه ذلك المعنى ، ولا يعرف للوضع معنى غير ذلك ، ففهم المعنى الذي سميتموه أو سميتم اللفظ الدال عليه أو استعماله على حسب اصطلاحكم مجازا مع نفي الوضع جمع بين النقيضين ، وهو يتضمن أن يكون اللفظ موضوعا غير موضع .

فإن قلتم : لا تناقض في ذلك فإنا نفينا الوضع الأول وأثبتنا الوضع الثاني .

قيل لكم : هذا دور ممتنع ، فإن معرفة كونه مجازا متوقف على معرفة الوضع الثاني ومستفاد منه ، فلو استفيد معرفة الوضع من كونه مجازا لزم الدور الممتنع ، فمن أين علمتم أن هذا وضع ثان للفظ ، وليس معكم إلا أن ادعيتم أنه مجاز ، ثم قلتم : فيلزم أن يكون موضوعا وضعا ثانيا ، فإنكم إنما استفدتم كونه مجازا من كونه مستعملا في غير موضوعه فكيف يستفاد كونه مستعملا في غير موضوعه من كونه مجازا .

يوضحه الوجه الثامن : أنه ليس معكم إلا استعمال ، وقد استعمل في هذا وهذا ، فمن أين لكم أن وضعه لأحدهما سابق على وضعه للآخر ، ولو ادعى آخر أن الأمر بالعكس كانت دعواه من جنس دعواكم ، وسيأتي الكلام على الإطلاق والتقييد الذي هو حقيقة ما تعرفونه به ، وأنه لا يفيدكم شيئا البتة .

الوجه التاسع : أن هذا يتضمن التفريق بين المتماثلين ، فإن اللفظ إذا أفهم هذا المعنى تارة وهذا تارة فدعوى المدعي أنه موضوع لأحدهما دون الآخر ، وأنه عند فهم أحدهما يكون مستعملا في غير ما وضع له تحكم محض ، وتفريق بين المتماثلين .

الوجه العاشر : أن هذا تقسيم فاسد لا ينضبط بضابط صحيح ، ولهذا عامة ما يسميه بعضكم مجازا يسميه غيره حقيقة ، وهذا يدعي أنه استعمل فيما لم يوضع له ، وذلك يدعي أن هذا موضوعه ، وذلك أنه ليس في نفس الأمر فرق يتميز به أحد النوعين عن الآخر ، فإن الفرق إما في نفس اللفظ وإما في المعنى ، وكلاهما منتف قطعا ، أما انتفاء الفرق في اللفظ فظاهر ، فإن اللفظ بما سميتموه حقيقة وما سميتموه مجازا واحد ، وأما الفرق المعنوي فمنتف أيضا ، إذ ليس بين المعنيين من الفرق ما [ ص: 292 ] يدل على أنه وضع لهذا ولم يوضع لهذا بوجه من وجوه الدلالة ، ولهذا لما تفطن بعض الفضلاء لذلك قال : إنما يعرف الفرق بين الحقيقة والمجاز بنص أهل اللغة على أن هذا حقيقة وهذا مجاز ، فإن أراد بأهل اللغة العرب العاربة الذين نقلت عنهم الألفاظ ومعانيها ، فلم ينص أحد منهم البتة على ذلك ، وإن أراد من نقل عنهم الألفاظ ومعانيها مشافهة من أئمة اللغة كالأصمعي والخليل والفراء وأمثالهم فكذلك ، وإن أراد المتأخرين منهم الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز كابن جني والزمخشري وأبي علي وأمثالهم فهذا اصطلاح منهم لا إخبار عن العرب ، ولا عن نقلة اللغة أنهم نقلوه عن العرب ، وحينئذ فتعود المطالبة لهم بالفرق المطرد المنعكس بين ما سموه حقيقة وما سموه مجازا ، وسنذكر إن شاء تعالى فرقهم ونبطلها ، يوضحه :

الوجه الحادي عشر : أن تمييز الألفاظ والتفريق بينها تابع لتمييز المعاني والتفريق بين بعضها وبعض ، فإذا لم يكن المعنى الذي سموه حقيقيا منفصلا متميزا من المعنى الذي سموه مجازيا بفصل يعلم به أن استعماله في هذا حقيقة ، واستعماله في الآخر مجاز ، لم يصح التفريق في اللفظ ، وكان تسميته لبعض الدلالة حقيقة ولبعضها مجازا تحكما محضا .

الوجه الثاني عشر : أنهم اختلفوا هل تفتقر صحة الاستعمال المجازي إلى النقل في كل صورة ، كما تفتقر إلى ذلك الحقيقة أم لا على قولين ، والصحيح عندهم أنه لا يشترط ، قالوا : وليس مورد النزاع في الأشخاص كزيد وأسد وبحر وغيث ، إذ لا تتوقف صحة هذا الإطلاق على كل شخص على النقل .

فنقول : لا يتحقق ذلك في الأشخاص ولا في الأنواع ، أما الأشخاص فظاهر ، فإنه لا يشترط في استعمال اللفظ في كل واحد منها النقل عن أهل اللغة ، إذا كانت العلاقة موجودة في الأفراد ، وأما الأنواع فلا يكفي في استعمال اللفظ في كل صورة ظهور نوع من العلاقة المعتبرة ، فإن من العلاقات عندهم علاقة اللزوم ، بحيث يتجوز عن الملزوم إلى لازمه وعكسه ، وعلاقة التضاد بأن يتجوز من أحد الضدين إلى الآخر ، وعلاقة المشابهة وعلاقة الجوار والقرب ، وعلاقة تقدم ثبوت الصفة للحمل ، وعلاقة كونه آيلا إليها ، فبعضهم جعل أنواع العلاقات أربعة ، وبعضهم أوصلها إلى اثني عشر علاقة ، وبعضهم أوصلها إلى خمسة وعشرين ، ولو أوصلها آخر إلى خمسة وسبعين لقبلوا منه .

[ ص: 293 ] ومن المعلوم أنه ما من شيئين إلا وبينهما علاقة من هذه العلاقات ، فإذا لم يشترط النقل في آحاد الصور واكتفي بنوع العلاقة لزم من ذلك صحة التجوز بإطلاق كل لازم على لازمه ، وكل لازم على ملزومه ، وكل ضد على ضده ، وكل مجاور على مجاوره ، وكل شيء كان على صفة ، ثم فاقها على ما اتصف بها ، وكل مشبه على مشبهه ، وفي ذلك من الخبط وفساد اللغات وبطلان التفاهم ووقوع اللبس والتلبيس ما يمنع منه العقل والنقل ومصالح الآدميين ، فيجوز تسمية الليل نهارا والنهار ليلا ، والمؤمن كافرا والكافر مؤمنا ، والصادق كاذبا والكاذب صادقا ، والمسك نتنا والنتن مسكا ، والبول طعاما والطعام بولا ، وتسمية كل شيء باسم ضده ومجاوره ومشابهه ولازمه ، فهل يقول هذا أحد من عقلاء بني آدم ؟ وهل في العالم قول أفسد من قول هذا لازمه ؟ .

ولما ورد عليهم وعرفوا أنه وارد لا محالة قالوا : المانع يمنع من ذلك ، ولولا المانع لقلنا به ، فيقال : يا لله العجب ، ما أسهل الدعوى التي لا حقيقة لها عليكم ، أليس من المعلوم أن إضافة الحكم إلى المانع يستلزم أمرين : أحدهما قيام المقتضي والآخر إثبات المانع ، فقد سلمتم حينئذ أن المقتضي للتجوز المذكور موجود ، وادعيتم على العرب وأهل اللغة أن هذه العلاقات عندهم مقتضية لإطلاق اسم الضد على ضده ، واللازم على ملزومه والمجاور على مجاوره ، ثم ادعيتم أنهم منعوكم من هذا التجوز فيما لا يحصيه إلا الله تعالى ، فمن أين لكم الشهادة عليهم بهذا المقتضى وهذا المانع ، وأين قالوا لكم : أبحنا لكم إطلاق هذه الأضداد الخاصة على أضدادها ، وهذه اللوازم على ملزوماتها وحرمنا عليكم ما عداها ، وهل معكم غير الاستعمال الثابت عنهم ، وذلك الاستعمال لا يفيد أن ذلك بوضعهم وعرفهم من خطابهم ، فما لم يستعملوه وما لم يتفاهموه من مخاطباتهم علمنا أنه ليس من لغتهم ، وما فهموه واستعملوه هو من لغتهم ، وإذا دار الأمر بين إضافة الحكم إلى عدم مقتضيه وإضافته إلى وجود مانعه تعينت حوالته على عدم مقتضيه تخلصا من دعوى التعارض والتناقض ، فإن الصورة الممنوع منها إذا كانت مثل الصورة المستعملة كان التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين ، والعقل يأباه ويمنع منه .

وهذه المحاولات إنما لزمت من تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم ، يوضحه : الوجه الثالث عشر : أن الذين اشترطوا النقل قالوا : لو جاز الإطلاق من غير فعل [ ص: 294 ] لكان ذلك إما قياسا ، إن كان مستندا إلى وصف ثبوتي مشترك بين صورة الاستعمال وصورة الإلحاق ، وإما اختراعا ، إن لم يستند إلى ذلك ، فأجابهم من لم يشترط النقل بأن قالوا : العلاقة مصححة للتجوز ، كرفع الفاعل ونصب المفعول ، فإنا لما استقرأنا لغتهم وجدناهم يرفعون ما نطقوا به من أسماء المفعولين علمنا أن سبب الرفع هو الفاعلية وسبب النصب هو المفعولية ، فهكذا استقراء علاقات المجاز ، وليس كذلك إطلاقهم كل ضد على ضده ، وكل لازم على لازمه .

وهذا الجواب من أفسد الأجوبة ، فإنا نعلم بالضرورة من لغتهم رفع كل فاعل ونصب كل مفعول ، وجر كل مضاف ، ولا يختلف في ذلك صورة من الصور ، فإنا لم نجد ذلك بنقل تواتر ولا آحاد ولا استقراء يفيد علما ولا ظنا ولا اطراد استعمال ، فقياس التجوز بكل ضد على ضده ، وبكل ملزوم على ملزومه على رفع الفاعل ونصب المفعول من أفسد القياس .

الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا : يعرف المجاز بصحة نفيه ، أي إذا صح نفيه عما أطلق عليه كان مجازا ، كما يقال لمن قال : فلان بحر وأسد وشمس ، وحمار وكلب وميت ليس كذلك ، وهذا بخلاف الحقيقة ، فإنه لا يصح أن ينفى عما أطلق عليه لفظا ، فلا يقال للحمار والأسد والبحر والشمس ليس كذلك ، فإنه يكون كذبا ، وقد اعترفوا هم ببطلانه فقالوا : هذا فرق يلزم منه الدور ، وذلك أن صحة النفي وامتناعه يتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز ، فلو عرفناهما بصحة النفي وامتناعه لزم الدور .

التالي السابق


الخدمات العلمية