مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 304 ] الوجه الرابع والعشرون : أن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره ، ومن زعم ذلك فهو غالط ، فليس لجناح الذل مفهومان وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، كما يمكن ذلك في لفظ أسد وبحر وشمس ونحوها ، وإنما ينشأ الغلط في ظن الظان أنهم وضعوا لفظ جناح مطلقا هكذا غير مقيد ، ثم خصصوه في أول وضعه بذوات الريش ثم نقلوه إلى الملك والذل فهذه ثلاث مقدمات لا يمكن لبشر على وجه الأرض إثباتها ، ولا سبيل إلى العلم بها إلا بوحي من الله تعالى .

الوجه الخامس والعشرون : قولكم : نفرق بين الحقيقة والمجاز يتوقف المجاز على المسمى الآخر بخلاف الحقيقة ؟ ومعنى ذلك أن اللفظ إذا كان إطلاقه على أحد مدلوليه متوقفا على استعماله في المدلول الآخر كان بالنسبة إلى مدلوله الذي يتوقف على المدلول الآخر مجازا .

وهذا مثل قوله تعالى : ( ومكروا ومكر الله ) فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الرب سبحانه يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق ، فهو حينئذ مجازي بالنسبة إليه ، حقيقة بالنسبة إليهم ، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد ، أما ( أولا ) فإن دعواكم أن إطلاقه على أحد مدلوليه متوقف على استعماله في الآخر دعوى باطلة مخالفة لصريح الاستعمال ، ومنشأ الغلط فيها أنكم نظرتم إلى قوله تعالى : ( ومكروا ومكر الله ) وقوله ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ) وذهلتم عن قوله تعالى : ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) فأين المسمى الآخر ، وكذلك قوله تعالى : ( وهو شديد المحال ) فسر بالكيد والمكر ، وكذلك قوله : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ) .

فإن قلتم : يتعين تقدير المسمى الآخر ليكون إطلاق المكر عليه سبحانه من باب المقابلة ، كقوله تعالى : ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) وقوله : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) وقوله : ( نسوا الله فنسيهم ) فهذا كله إنما يحسن على وجه المقابلة ، ولا يحسن أن يضاف إلى الله تعالى ابتداء فيقال : إنه [ ص: 305 ] يمكر ويكيد ، ويخادع وينسى ، ولو كان حقيقة لصلح إطلاقه مفردا عن مقابلة ، كما يصح أن يقال : يسمع يرى ، ويعلم ويقدر .

فالجواب : أن هذا الذي ذكرتموه مبني على أمرين : أحدهما معنوي ، والآخر لفظي ، فأما المعنوي فهو أن مسمى هذه الألفاظ ومعانيها مذمومة فلا يجوز اتصاف الرب تعالى بها ، وأما اللفظي فإنه لا تطلق عليه إلا على سبيل المقابلة فتكون مجازا ، ونحن نتكلم معكم في الأمرين جميعا ، فأما الأمر المعنوي فيقال : لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيرا ، فيقال : فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم .

والصواب أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما يذم لكونه متضمنا للكذب أو الظلم أو لهما جميعا ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله كما في قوله تعالى : ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ) فإذا ذكر هذا عقيب قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) فكان هذا القول منهم كذبا وظلما في حق التوحيد والإيمان بالرسول واتباعه ، وكذلك قوله : ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ) الآية .

وقوله : ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) وقوله : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم ) فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها ، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازا ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم ؟ وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم ، حسن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل ، وذلك إذا مكر واستهزأ ظالما متعديا كان المكر به والاستهزاء عدلا حسنا ، كما فعله الصحابة بكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وأبي رافع وغيرهم ممن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخادعوه حتى كفوا شره وأذاه بالقتل ، وكان هذا الخداع والمكر نصرة لله ورسوله .

[ ص: 306 ] وكذلك ما خدع به نعيم بن مسعود المشركين عام الخندق حتى انصرفوا ، وكذلك خداع الحجاج بن علاط لامرأته وأهل مكة حتى أخذ ماله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " الحرب خدعة " وجزاء المسيء بمثل إساءته في جميع الملل ، مستحسن في جميع العقول ، ولهذا كاد سبحانه ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه ، جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه ، حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه ، فكان هذا من أعدل الكيد ، فإن إخوته فعلوا به ذلك حتى فرقوا بينه وبين أبيه ، وادعوا أن الذئب أكله ، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد ، حيث كان مقابلة ومجازاة ، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده ، بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن ، وإن كانت طريق ذلك مستهجنة ، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به ، وكان ذلك سببا في اتصاله بيوسف واختصاصه به ، لم يكن في ذلك ضرر عليه .

يبقى أن يقال : وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق ، فأي مصلحة كانتليعقوب في ذلك ؟ فيقال : هذا من امتحان الله تعالى له ، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي ، والله تعالى لما أراد كرامته كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء ، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق ، وهذا من كمال إحسان الرب تعالى أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر ، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها ، كما أن سبحانه وتعالى لما أراد أن يكمل لآدم نعيم الجنة أذاقه مرارة خروجه منها ، ومقاساة هذه الدار الممزوج رخاؤها بشدتها ، فما كسر عبده المؤمن إلا ليجبره ، ولا منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا ليعافيه ، ولا أماته إلا ليحييه ، ولا نغص عليه الدنيا إلا ليرغبه في الآخرة ، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليرده إليه .

فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق ، كما لا تمدح على الإطلاق ، والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم ولا من جهة القدرة ، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال ، وإنما يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة ، وهو أن الماكر المخادع يجور ويظلم بفعل ما ليس له فعله أو ترك ما يجب عليه فعله .

إذ عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقا ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى ، ومن ظن من الجهال المصنفين [ ص: 307 ] في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه الماكر المخادع المستهزئ الكائد فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود ، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه ، وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء ، وأسماؤه كلها حسنى فأدخلها في الأسماء الحسنى ، وأدخلها وقرنها بالرحيم الودود الحكيم الكريم ، وهذا جهل عظيم ، فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا ، بل تمدح في موضع وتذم في موضع ، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقا ، فلا يقال : إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد .

فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها ، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد ولا المتكلم ولا الفاعل ولا الصانع ، لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم ، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها ، كالحليم والحكيم ، والعزيز والفعال لما يريد ، فكيف يكون منها الماكر المخادع المستهزئ ، ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الداعي والآتي ، والجائي والذاهب والقادم والرائد ، والناسي والقاسم ، والساخط والغضبان واللاعن ، إلى أضعاف ذلك من الأسماء التي أطلق على نفسه أفعالها في القرآن ، وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل ، والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ، وهذا إذا نزلنا ذلك على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا ، وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحا ، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحا البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداء لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه ، إذ الموجب للمجاز منتف على التقديرين ، فتأمله فإنه قاطع ، فهذا ما يتعلق بالأمر المعنوي .

أما الأمر اللفظي فإطلاق هذه الألفاظ عليه سبحانه لا يتوقف على إطلاقها على المخلوق ليعلم أنها مجاز لتوقفها على المسمى الآخر كما قدمنا من قوله : ( وهو شديد المحال ) وقوله : ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) فظهر أن هذا الفرق الذي اعتبروه فاسد لفظا ومعنى ، يوضحه :

[ ص: 308 ] الوجه السادس والعشرون : أن هاهنا ألفاظا تطلق على الخالق والمخلوق ، أفعالها ومصادرها وأسماء الفاعلين والصفات المشتقة منها ، فإن كانت حقائقها ما يفهم من صفات المخلوقين وخصائصهم ، وذلك منتف في حق الله تعالى قطعا لزم أن تكون مجازا في حقه لا حقيقة ، فلا يوصف بشيء من صفات الكمال حقيقة وتكون أسماؤه الحسنى كلها مجازات ، فتكون حقيقة للمخلوق مجازا للخالق ، وهذا من أبطل الأقوال وأعظمها تعطيلا ، وقد التزمه معطلو الجهمية وعمومهم ، فلا يكون رب العالمين موجودا حقيقة ، ولا حيا حقيقة ، ولا مريدا حقيقة ، ولا قادرا حقيقة ، ولا ملكا حقيقة ، ولا ربا حقيقة ، وكفى أصحاب هذه المقالة بها كفرا ، فهذا القول لازم لكل من ادعى المجاز في شيء من أسماء الرب وأفعاله لزوما لا يحصى له عنه ، فإنه إنما فر إلى المجاز لظنه أن حقائق ذلك مما يختص بالمخلوقين ولا فرق بين صفة وصفة ، وفعل وفعل ، فإما أن يقول الجميع مجاز أو الجميع حقيقة .

وأما التفريق بين البعض وجعله حقيقة وبين البعض وجعله مجازا فتحكم محض باطل ، فإن زعم هذا المتحكم أن ما جعله مجازا ما يفهم من خصائص المخلوقين وما جعله حقيقة ليس مفهومه مما يختص بالمخلوقين طولب بالتفريق بين النفي والإثبات وقيل له : بأي طريق اهتديت إلى هذا التفريق ؟ بالشرع أم العقل أم باللغة ؟ فأي شرع أو عقل أو لغة أو فطرة على أن الاستواء والوجه واليدين والفرح والضحك والغضب والنزول حقيقة فيما يفهم من خصائص المخلوقين ، والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة حقيقة فيما لا يختص به المخلوق .

فإن قال : أنا لا أفهم من الوجه واليدين والقدم إلا خصائص المخلوق ، وأفهم من السمع والبصر والعلم والقدرة ما لا يختص به المخلوق ، قيل له : فبم تنفصل عن شريكك في التعطيل إذا ادعى في السمع والبصر والعلم مثل ما ادعيته أنت في الاستواء والوجه واليدين ؟ ثم يقال لك : هل تفهم مما جعلته حقيقة خصائص المخلوق تارة وخصائص الخالق تارة ، أو القدر المشترك ، أو لا تفهم منها إلا خصائص الخالق .

فإن قال بالأول كان مكابرا جاهلا ، وإن قال بالثاني قيل له : فهلا جعلت الباب كله بابا واحدا وفهمت ما جعلته مجازا خصائص المخلوق تارة والقدر المشترك تارة ، فظهر للعقل أنكم متناقضون ، يوضحه :

التالي السابق


الخدمات العلمية