مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السابع والعشرون : أن هذه الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق [ ص: 309 ] لها ثلاث اعتبارات أحدها : أن تكون مقيدة بالخالق ، كسمع الله وبصره ووجهه ويديه واستوائه ، ونزوله وعلمه وقدرته وحياته ، الثاني : أن تكون مقيدة بالمخلوق كيد الإنسان ووجهه ويديه واستوائه ، الثالث : أن تجرد عن كلا الإضافتين وتوجد مطلقة ، فإثباتكم لها حقيقة ، إما أن يكون بالاعتبار الأول أو الثاني أو الثالث ، إذ لا رابع هناك ، فإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالخالق لزم أن تكون في المخلوق مجازا ، وهذا مذهب قد صار إليه أبو العباس الناشي ووافقه عليه جماعة ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالمخلوق لزم أن تكون في الخالق مجازا ، وهذا مذهب قد صار إليه إمام المعطلة جهم بن صفوان ، ودرج أصحابه على أثره ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة القدر المشترك ، ولم يدخل القدر المميز في موضعها لزم أن يكون حقيقة في الخالق ، وهذا قول عامة العقلاء ، وهو الصواب ، وإن فرقتم بين بعض الألفاظ وبعض ، وقعتم في التناقض والتحكم المحض ، يوضحه :

الوجه الثامن والعشرون : أن خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن حقيقته وتوجب جعله مجازا عند إضافته إلى محل الحقيقة ، وهذا من مثار أغلاط القوم ، مثاله لفظ الرأس ، فإنه يستعمل مضافا إلى الإنسان والطائر والسمك والماء والطريق والإسلام والمال ، وغير ذلك ، فإن قيد بمضاف إليه تعين ، ولم يتناول غير الأمور المضاف إليها ، بل هذا القيد غير هذا القيد ، ومجموع اللفظ الدال في هذا التقييد غير مجموع اللفظ الدال في هذا التقييد الآخر ، وإن اشتركا في جزء اللفظ كما اشتركت الأسماء المعرفة باللام فيها ، فلم تضع العرب لفظ الرأس لرأس الإنسان مثلا وحده ، ثم إنهم وضعوه لرأس الطائر والماء والمال وغيرها ، فهذا لا يمكن أحد أن يدعيه إلا أن يكون مباهتا ، وكذلك لفظ البطن والظهر والخطم والفم ، فإنه يقال : ظهر الإنسان وبطنه ، وظهر الأرض وبطنها ، وظهر الطريق ، وظهر الجبل ، وخطم الجبل ، وفم الوادي ، وبطن الوادي ، وذلك حقيقة في الكل ، فالظاهر لما ظهر فتبين ، والباطن لما بطن فخفي ، فالحسي للحسي والمعنوي للمعنوي ونسبة كل منهما إلى ما يضاف إليه كنسبة الآخر إلى ما يضاف إليه ، والعرب لم تضع فم الوادي وخطم الجبل وظهر الطريق لغير [ ص: 310 ] مفهومه ، حتى يكون استعماله في ذلك استعمالا له في غير موضوعه ، ولم تتكلم بلفظ فم وظهر ورأس مفردا مجردا عن جميع الإضافات ، فتكون إضافته مجازا في جميع موادها ، ولم تضعه لمضاف إليه معين يكون حقيقة فيه ثم وضعته لغيره وضعا ثانيا ، فأين محل الحقيقة والمجاز من هذه الألفاظ المقيدة ؟ .

الوجه التاسع والعشرون : أن من الأسماء ما تكلمت به العرب مفردا مجردا عن الإضافة ، وتكلمت به مقيدا بالإضافة كالإنسان مثلا والإبرة ، فإنهم يقولون : إنسان العين وإبرة الذراع ، وقد ادعى أرباب المجاز أن هذا مجاز ، وهنا لم يستعمل اللفظ المجرد في غير ما وضع له ، بل ركب مع لفظ آخر ، فهو وضع أولا بالإضافة ، ولو أنه استعمل مضافا في معنى ثم استعمل بتلك الإضافة بعينها في موضع آخر أمكن أن يكون مجازا ، بل إذا كان بعلبك وحضرموت ونحوهما من المركب تركيب مزج بعد أن كان أصله الإفراد وعدم الإضافة ، لا يقال فيه : إنه مجاز ، فما لم تنطق به إلا مضافا أولى أن لا يكون مجازا فتأمله .

الوجه الثلاثون : أن مثبت المجاز والاستعارة قد ادعى أن المتكلم وضع هذه اللفظة في غير موضوعها ، ولا سيما الاستعارة ، فإن المستعير هو آخذ ما ليس له في الحقيقة ، فإذا قال : هذه اللفظة مجاز أو استعارة فقد ادعى أنها وضعت في غير موضوعها ، فيقال له : فهما أمران : مستعار ومستعار منه ، فلا تخلو الكلمة التي جعلت الأخرى مستعارة منها وهي أصلية غير مستعارة أن تكون قد جعلت كذلك لخاصة فيها ، اقتضت أن تكون هي الأصل المستعار منه ، أو تكون كذلك لأن لغة العرب جاءت بها وثبت استعمالهم لها .

فإن قلتم : إنما كانت مستعارا منها وهي أصل لعلة أوجبت لها ذلك في نفس لفظها ، قيل لكم : ما هي تلك العلة وما حقيقتها ؟ ولن تجدوا إلى تصحيح ذلك سبيلا : فإن قلتم : إنما كانت مستعارا منها لأن العرب تكلمت بها واستعملتها في خطابها ، قيل لكم : فهذه العلة بعينها موجودة في الكلمة التي ادعيتم أنها مستعارة وأنها مجاز ، والعرب تكلمت بهذا وهذا ، فإما أن تكونا مستعارتين أو تكونا أصليتين وإما أن تجعل إحداهما أصلا للأخرى ومعيرة لها الاستعمال ، فهذه تحكم بارد .

فإن قلتم : إنما جعلنا هذه أصلا لكثرتها في كلامهم ، وهذه مستعارة لقلتها في كلامهم ، قيل : هذا باطل من وجوه : أحدها : أن كثيرا من الحقائق نادرة الاستعمال في [ ص: 311 ] كلامهم ، وهي الألفاظ الغريبة جدا التي لا يعرف معناها إلا الأفراد من أهل اللغة مع كونها حقائق .

وثانيها : أن كثيرا من المجازات عندكم قد غلب على الحقيقة بحيث صارت مهجورة أو مغمورة ؟ ولم يدل على أن الغالب هو الحقيقة والمغلوب هو المجاز ، وثالثها : أن هذا لا يمكن ضبطه ، فإن الكثرة والغلبة أمر نسبي يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ويكثر عند هؤلاء ما يقل ، بل يعدم عند غيرهم ، فما الذي تضبط به الكثرة الدالة على الحقيقة والقلة الدالة على المجاز ؟ ولن تجدوا لذلك ضابطا أصلا .

الوجه الحادي والثلاثون : إن حكمكم على بعض الألفاظ أنه مستعمل في موضوعه ؟ وعلى بعضها أنه مستعمل في غير موضوعه تحكم بارد ، فإنا إنما نعلم أن هذا المفهوم موضوع اللفظ باستعماله فيه فإذا رأيناهم في نظمهم ونثرهم وقديم كلامهم وحديثه قد استعملوا هذا اللفظ في هذا المعنى وفي هذا المعنى كان دعوى أنه مستعمل في موضوعه في هذا دون الآخر دعوى باطلة متضمنة للتحكم والخرص والكذب .

فإن قلتم : لما رأيناه إذا أطلق فهم منه معنى ، وإذا قيد يفهم منه معنى آخر علمنا أن موضوعه هو الذي يدل عليه إطلاقه .

قيل لكم : هذا خطأ ، فإن اللفظ المفرد لا يفيد بإطلاقه وتجرده شيئا البتة ، فلا يكون كلاما ولا جزء كلام ، فضلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، ومعلوم أن تركيبه التركيب الإسنادي تقييد له وإذا ركب فهم المراد منه بتركيبه ، فالذي يسمونه مجازا عند تركيبه لا يفهم منه غير معناه وذلك موضوعه في لغتهم فدعوى انتقاله عن موضوعه إلى موضوع آخر وهم إنما استعملوه هكذا دعوى باطلة ، ولنذكر لك مثالا .

ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال : كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة يقال له : مندوب ، فركبه ، فقال : ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا ، فادعى المدعي أن هذا مجاز ، وكان ظن أن العرب وضعت البحر لهذا الماء المستبحر ثم نقلته إلى الفرس لسعة جريه فشبهته به فأعطته اسمه ، وهذا إن كان محتملا فلا [ ص: 312 ] يتعين ولا يصار إلى القبول به لمجرد الاحتمال ، فإنه من الممكن أن يكون البحر اسما لكل واسع ، فلما كان خطو الفرس واسعا سمي بحرا ، وقد تقيد الكلام بما عين مراد قائله بحيث لا يحتمل غيره ، فهذا التركيب والتقييد معين لمقصوده ، وأنه بحر في جريه لا أنه بحر ماء نقل إلى الفرس .

يوضحه : أنهم قصدوا تسمية الخيل بذلك فقالوا للفرس : جواد وسابح وطرف ، ولو عري الكلام من سياق يوضح الحال لم يكن من كلامهم ، وكان فيه من الإلباس ما تأباه لغتهم .

ألا ترى أنك لو قلت رأيت بحرا وأنت تريد الفرس ، أو رأيت أسدا وأنت تريد الرجل الشجاع لم يكن ذلك جاريا على طريق البيان ، فكان بالألغاز والتلبيس أشبه منه بالمائدة ، وهؤلاء المتكلفون والمتكلمون بلا علم يقدرون كلاما يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إلى الكلام المستعمل ، وهذا غلط ، فإن الكلام المستعمل لا بد أن يقترن به من البيان والسياق ما يدل على مراد المتكلم ، وذلك الكلام المقدر مجرد عن ذلك ، ولا ريب أن الكلام يلزم في تجرده لوازم لا تكون له عند اقترانه وكذلك بالعكس ، ونظير هذا اللغط أيضا أنهم يجردون اللفظ المفرد عن كل قيد ثم يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره ، فيقولون : الأسد من حيث يقطع النظر عن كل قرينة هو الحيوان المخصوص ، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير ، وهذا غلط ، فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام ولا يفيد فائدة أصلا ، وهو صوت ينعق به ; يوضحه :

الوجه الثاني والثلاثون : أنكم إما أن تعتبروا تحقيق الوضع الأول الذي يكون اللفظ بالخروج عنه مجازا أو تعتبروا تقديره ، فإن اشترطتم تحقيقه بطل التقسيم إلى الحقيقة والمجاز ، لأن الحكم المشروط بشرط لا يتحقق إلا عند تحقق شرطه ، ولا سبيل لبشر إلى العلم بتحقيق هذين الأمرين ، وهما الوضع الأول والنقل عنه ، وإن اعتبرتم تقديره وإمكانه فهو ممتنع أيضا ، إذ مجرد التقدير والاحتمال لا يوجب تقسيم الكلام إلى مستعمل في موضوعه الأول ومستعمل في موضوعه الثاني ، فهب أن هذا الحكم ممكن أفيجوز هذا الحكم والتقسيم بمجرد الاحتمال والإمكان ؟ يوضحه :

الوجه الثالث والثلاثون : أن هذا التقسيم إما أن تخصوه بلغة العرب خاصة أو تدعوا عمومه لجميع لغات بني آدم ، فإن ادعيتم خصوصه بلغة بالعرب كان ذلك تحكما فاسدا ، فإن التشبيه والمبالغة والاستعارة التي هي جهات التجوز عندكم مستعملة [ ص: 313 ] في سائر اللغات ، وإن كانت لغة العرب في ذلك أوسع وتصورهم المعاني أتم فإذا قلت : زيد أسد أمكن التعبير عن هذا المعنى بكل لغة ، وإن ادعيتم عموم ذلك لجميع اللغات فقد حكمتم على لغات الأمم على أن كلها أو أكثرها مجازات لا حقيقة لها ، وأنها قد نقلت عن موضوعاتها الأصلية إلى موضوعات غيرها ، وهذا أمر ينكره أهل كل لغة ولا يعرفونه ، بل يجزمون بأن لغاتهم باقية على موضوعاتهما لم تخرج عنها ، وأنهم نقلوا لغتهم عمن قبلهم ، ومن قبلهم كذلك على هذا الوضع ، لم ينقل إليهم أحد أن لغتهم كلها أو أكثرها خرجت عن موضوعاتها إلى غيرها .

الوجه الرابع والثلاثون : أنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى متكلم حقيقة ، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها على رسله ، كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها ، وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء ، فهذه الألفاظ التي تكلم الله بها ، وفهم عباده مراده منه لم يضعها سبحانه لمعان ثم نقلها عنها إلى غيرها ، ولا كان تكلمه سبحانه بتلك الألفاظ تابعا لأوضاع المخلوقين ، فكيف يتصور دعوى المجاز في كلامه سبحانه إلا على أصول الجهمية المعطلة ، الذين يقولون : كلامه مخلوق من جملة المخلوقات ولم يقم به سبحانه كلام ، وهؤلاء اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتكفيرهم .

وأما من أقر أن الله تعالى تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها حقيقة ، وأن موسى سمع كلامه منه إليه بلا واسطة ، وأنه يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم ملائكته ، فإنه لا يتصور على أصله دخول المجاز في كلامه ، ولو كان ثابتا ، ولا سيما على أصول من يجعل كلام الله معنى واحدا لا تعدد فيه ، وهذه العبارات دالة على ذلك المعنى ؟ فليس بعضها أسبق من بعض تلك المفهومات له بالوضع الأول وبعضها بالوضع الثاني ، وكذلك من يجعل الألفاظ الدالة على المعاني قديمة لا يسبق بعضها بعضا ; فكيف يعقل عند هؤلاء وضع أول يكون حقيقة ، ووضع ثان يكون مجازا ; وسنذكر إن شاء الله تعالى فساد دعواهم في الألفاظ والقرآن أنها مجاز لو كان مجاز حقا .

فإن قيل : الرب سبحانه خاطبهم بما ألفوه من لغاتهم واعتادوا من التفاهم منها ، فلما كان من خطابهم فيما بينهم الحقيقة والمجاز ، جاء الله لهم بذلك ليحصل لهم الفهم والبيان ، قيل : خطاب الله تعالى سابق على مخاطبة بعضهم بعضا ، فهل كان في [ ص: 314 ] كلامه سبحانه ألفاظ وضعت لمعان ثم نقلها سبحانه عنها إلى معان أخر ؟ فهل يتصور هذا القدر في كلامه ؟ وإن كان ذلك في مخاطبة بعضهم بعضا ؟ يوضحه :

التالي السابق


الخدمات العلمية