مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الخامس والثلاثون : وهو أن الله هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم ، فعلمهم المعاني وصورها في نفوسهم ، وعلمهم التعبير عنها بتلك الألفاظ . كما قال تعالى : ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) فهو سبحانه علم الإنسان أن يبين عما في نفسه ، وأقدره على ذلك ، وجعل بيانه تابعا لتصوره واحتياجه إلى التعبير عما في نفسه ، وذلك من لوازم نشأته وتمام مصلحته ، والمعاني التي يدعى أن اللفظ حقيقة فيها أو يكون معها ، وحاجتهم إلى التعبير عن الجميع سواء ، فكيف يدعى أن اللفظ وضع لبعضها دون بعض مع شدة الحاجة إلى التعبير عن الجميع ; هذا ما يأباه العقل والعادة ، ولا سيما على قول الغلاة الذين يدعون أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأفعال كلها مجاز ، فهل كانت الطبيعة والاستعمال والألسن معطلة عن استعمال تلك المجازات حتى أحدث لها وضع ثان ، ولا ريب أن الذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يتصوروا لوازم قولهم ، ولو تصوروه حق التصور لما تكلموا به .

الوجه السادس والثلاثون : مما يبين بطلان هذا التقسيم أن أصحابه متنازعون في أشهر الكلام وأظهره استعمالا ، نزاعا كثيرا لا يمكن معه الحكم لطائفة على طائفة ، فلو كان الفرق الذي ادعيتموه ثابتا في نفس الأمر أمكن الحكم بينكم .

مثال ذلك ، أن العام المخصوص إما أن يقال : كله حقيقة ، وإما أن يقال : كله مجاز ، وإما أن يقال : بعضه حقيقة وبعضه مجاز ، سواء قيل إن التخصيص المفصل حقيقة والمنفصل مجاز والباقي حقيقة ، أو قيل : الاستثناء وحده حقيقة دون سائر المنفصلات ، فأي قول من هذه الأقوال قبل على تقدير التقسيم إلى الحقيقة والمجاز فهو باطل إلا قول من جعل الجميع حقيقة ، فيلزم بطلان التقسيم على التقديرين .

بيان ذلك أن الذين قالوا : العام المخصوص كله حقيقة ، وهم أكثر العلماء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ، بل أكثرهم أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولم يذكروا في ذلك نزاعا ، واحتجوا بحجج تستلزم نفي المجاز .

قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني : ( مسألة ) في العموم إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أو مجازا ؟ فاختلف الناس في ذلك فذهبت طائفة إلى أنه يكون حقيقة فيما [ ص: 315 ] بقي ، سواء خص بدليل متصل كالاستثناء ، أو بدليل منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك ، قال : وهذا مذهب الشافعي وأصحابه ، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ، قال : وذهبت طائفة إلى أنه يكون مجازا في الثاني ، سواء خص بدليل متصل أو منفصل ، وهذا مذهب المعتزلة بأسرها ، وهو قول عيسى بن أبان وأكثر أصحاب أبي حنيفة ، وحكى بعض الأشعرية أنه مذهب الأشعري أيضا ، وذهبت طائفة إلى أنه إن خص بدليل متصل كان حقيقة في الباقي ، وإن خص بدليل منفصل كان مجازا ، ذهب إلى هذا الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة .

قال : وفائدة الخلاف في هذه المسألة أن يقول : إن ذلك حقيقة في الثاني يحتج بلفظ العموم فيما يخص منه بمجرده من غير دليل عليه ، ومن يقول : إنه يكون مجازا لا يمكنه الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما بقي إلا بدليل يدل على أنه محمول على ذلك ، قال : وهذا الذي حكي عن الأشعري لا يجيء على قوله من وجهين : أحدهما : أن اللفظ المشترك عنده بين العموم والخصوص ، إذا دل الدليل على العموم كان حقيقة فيه ، وإذا دل الدليل على الخصوص وكان حقيقة فكيف يصح على قوله أن يقال : إنه لا حقيقة فيما بقي بعد التخصيص .

والثاني : أنه يقول : إن اللفظ المستعمل فيما بقي يحتج فيه بمجرده من غير دلالة ، وهذا معنى قولنا : إنه حقيقة في الثاني ، فإذا سلم هذا لم يكن تحت قولنا إنه مجاز فيما بقي معنى فإن من قال : إن ذلك يكون مجازا فيما بقي استدل بنكتة واحدة ، وهي أن لفظ العموم موضوع للاستغراق بتجريده ، فإذا دل الدليل على تخصيصه فإنه يحمل على الخصوص ويعدل بعده عن موضوعه بالقرينة التي دلت على خصوصية اللفظ وإذا عدل به عن موضوعه إلى غيره كان استعماله فيه مجازا لا حقيقة .

ألا ترى أن اسم الأسد موضوع في الحقيقة للبهيمة ، وإذا استعمل بقرينة في الرجل الشجاع كان مجازا ، وكذلك الحمار اسم في الحقيقة للبهيمة ، وإذا استعمل بقرينة في الرجل البليد كان مجازا ، وكذلك لفظ العموم إذا استعمل في الخصوص بقرينة كان مجازا ، قال : ودليلنا أن لفظ العموم إذا ورد مطلقا فإنه يقتضي استغراق الجنس ، فإذا ورد دليل التخصيص فإن ذلك الدليل يبين ما ليس بمراد باللفظ ويخرجه عنه ليكون هذا الدليل قد أثر فيما يخرجه عنه ويبين أنه ليس بمراد به يؤثر فيما بقي ، بل يكون ما بقي الحكم ثابتا فيه باللفظ حسب ، والذي يدل على هذا أن الدليل التخصيص مناف لحكم ما بقي من اللفظ مضاد له فلا يجوز أن يؤثر فيه يثبت [ ص: 316 ] الحكم مع مضادته له ومنافاته ، فإنما يؤثر في إسقاط الحكم عما أخرجه وخصه ، إذا كان كذلك كان الحكم ثابتا فيما لم يدخله التخصيص بنفس اللفظ من غير قرينة ، وكان حقيقة فيه لا مجازا فيصير لأهل الحرب عندنا اسمان كل واحد منهما حقيقة فيهم ، أحدهما حقيقة فيهم بمجرده وهو قوله : اقتلوا أهل الحرب ، والآخر حقيقة فيهم عند وجود قرينة ، وهو أن يقولوا : اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة ، وليس يمتنع مثل هذا .

ألا ترى إذا قال : أعطوا فلانا ثوبا أصفر ، كان ذلك حقيقة في الثوب الأصفر بهذا اللفظ ، فإذا قال : أعطه ثوبا ولا تعطه غير الأصفر كان ذلك حقيقة فيه عند وجود القرينة ، فكذلك هذا مثله ، ويخالف هذا إذا استعمل اسم الحمار في الرجل البليد واسم الأسد في الرجل الشجاع ، لأن ذلك اللفظ يحمل عليه بالقرينة الدالة عليه لا بمجرد اللفظ ، فإن القرينة تدل على المراد باللفظ وهي مماثلة له في الحكم ، فهي دالة على ما أريد به ، فكان اللفظ مستعملا بالقرينة فكان مجازا ، وليس كذلك استعمال لفظ العموم في الخصوص ، فإن ما بينت المراد باللفظ وإنما بينت ما ليس بمراد ، فكان استعمال اللفظ في المراد بنفسه لا بالقرينة ، فإنه لا يجوز أن يكون مستعملا بالقرينة مضادة له ، فكان ذلك حقيقة فيما استعمل فيه لا مجازا .

قال : ودلالة على من ساوى بين القرينة المتصلة والمنفصلة يعني فجعل الجميع مجازا وهو أنا نقول : لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل : لفلان خمسة دراهم وبين قوله عشرة إلا خمسة ، في أن كل واحد من اللفظين يعبر به عن الخمسة ويدل عليها ، فلما كان لفظ الخمسة فيها كذلك قالوا عشرة إلا خمسة يجب أن يكون حقيقة فيها ، وهكذا يجب حكم كل دليل على تخصيص اللفظ بما يتصل به ، فأما من فرق بين الدليل المتصل والمنفصل فإنه فصل بين الموضوعين بأن قال : الكلام إذا اتصل بعضه ببعض بني بعضه على بعض ، فكان ذلك حقيقة فيما بقي ، وإذا انفصل بعضه عن بعض لم يبين فكان مجازا فيه ، قال : وهذا غلط لأنه فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة ، في أن اللفظ مبني عليها ودلالة على ما ليس بمراد منه وما بقي يكون ثابتا فيها باللفظ لا بقرينة ، فيجب أن لا يفترق حالهما بوجه ، وقد وافق أبا حامد على ذلك أئمة أصحاب الشافعي ، كالقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ ، قال أبو الطيب :

فصل : وإذا خص من العموم شيء لم تبطل دلالته في الثاني ، وقال عيسى بن [ ص: 317 ] أبان : يصير مجازا وتبطل دلالته ، واحتج من نصر قوله بأن اللفظ صار مستعملا في غير ما وضع له ، فاحتاج إلى دليل يدل على المراد به ، فإن لفظه لا يدل عليه ، وصار بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه ويحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به ، قال : وهذا عندنا غير صحيح لأن فاطمة احتجت بقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية ، وإن كان قد خص منها الولد القاتل والرقيق والكافر ، وإنما خصوا ميراث رسول صلى الله عليه وسلم بسنة خاصة ، فدل هذا على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يختص منه .

قال : وأيضا فإن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه الخاص لأنه أقوى منه ، وفيما عداه باقية لأنه لا معارض له فجاز الاحتجاج به فيما لم يخص منه .

فإن قال : هذا منتقض على أصلك بالعلة إذا خصت فإنه لا يجوز الاحتجاج بها فيما لم يخص منها ، فالجواب : أن العلة إذا خصت كانت منتقضة فلم تكن علة لذلك الحكم ، وليس كذلك العموم فإنه إذا خص منه شيئا كانت دلالته باقية فيما لم يخص منه ، لأنه إنما كان دليلا في جميع ما تناوله من الجنس ، لكونه قولا لصاحب الشريعة لا معارض له ، وهذا المعنى يوجد فيما لم يخص منه ، لأن التخصيص يحصل بافتراض الشرط أو الصفة أو الغاية ولا يمنع الاحتجاج به ، فكذلك التخصيص باللفظ المنفصل .

قال : وأما الجواب عن قول المخالف : إنه مستعمل في غير ما وضع له وأنه غير دال على المراد به ويحتاج إلى قرينة ، فلا نسلم أنه غير مستعمل في غير ما وضع له ، لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده وللخصوص بقرينة ، وهذا غير ممتنع في اللغة لأنا أجمعنا على أنه موضوع بمجرده للعموم والخصوص بقرينة متصلة به مثل الاستثناء ، فإن قوله : اقتلوا المشركين إلا أهل الكتاب ، ليس مجازا ، وهو مستعمل فيما وضع له ، والقرينة المنفصلة في معنى القرينة المتصلة ، والخاص مع العام بمنزلة الاستثناء مع المستثنى منه ، وكذلك قول القائل : خرج زيد يكون إخبارا عن خروجه وتضم إليه لفظة ما فيكون إخبارا عن ضده ، وتضيف إليه الهمزة فيكون استفهاما ، وكل ذلك حقيقة ، فكذلك في مسألتنا ، قال : هذا يؤدي إلى ألا يكون في اللغة مجاز ، إذ [ ص: 318 ] قولنا : بحر موضوع للماء الكثير بمجرده ، وللعالم أو الجواد بقرينة ، والأسد موضوع للبهيمة بمجرده والرجل الشديد بقرينة ، والحمار للبهيمة وللرجل البليد بقرينة ، وإذا كان كذلك بطل هذا الجواب .

قيل : لو لزمني هذا في التخصيص لزمه في الاستثناء فإن المخالف يقول في الاستثناء مثل ما نقول نحن في التخصيص ولا فرق بينهما .

وجواب آخر : وهو أن هذه المواضع إثباتها مجازا إما بالتوقف من جهة أهل اللغة وليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف فلم يجعله مجازا إلا ظاهر استعمال الحقيقة ، وجواب آخر : وهو أن هذا كلام في العبارة لا يجدي شيئا وإنما المقصود هل يبطل التخصيص دلالة اللفظ ويمنع الاحتجاج به أم لا ؟ وعند المخالف تبطل دلالة اللفظ ويمنع الاحتجاج به ، وهذا ظاهر الفساد .

وقوله : إن اللفظ لا ينبئ عن المراد وهو بمنزلة المجمل خطأ ، لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء ، والعموم دال على ما تناوله ، وإنما أخرج بعضه بدليل أقوى منه وبقي الباقي على موجب اللفظ وبيانه ، وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع :

فصل : وإذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ مجازا فيما بقي ، وقالت المعتزلة : يصير مجازا ، وكذلك الشيخ أبو نصر بن الصباغ ، صرح بذلك في كتاب العمدة في أصول الفقه ولا نزاع بين المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد أن العام المخصوص حقيقة ، وكذلك أصحاب مالك ، وإن كان بين المتأخرين منهم نزاع في ذلك ، كما لا نزاع بين الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة أنه حجة ، ومن نقل عن أحد منهم أنه لا يحتج بالعام المخصوص فهو غلط أقبح غلط وأفحشه ، وإذا لم يحتج بالعام المخصوص ذهبت أكثر الشريعة وبطلت أعظم أصول الفقه .

وهاهنا مسألتان : إحداهما : أنه هل يصير مجازا بعد التخصيص أم هو حقيقة ؟ والثانية : هل يحتج به بعد التخصيص أم لا ؟ وبعض المصنفين الغالطين يجعلها واحدة ويبني إحداهما على الأخرى فنقول : إذا بقي مجازا صار مجملا فلا يحتج به ، وهذا غلط يتركب منه أن العام المخصوص بالاستثناء والشرط والغاية والصفة وبدل البعض من الكل لا يحتج به عند من يجعل ذلك مجازا ، ومن نسب إلى الأئمة هذا وهذا فقد كذب عليهم ، ويلزم هؤلاء أن يكون أفضل الكلام وأعلاه الذي لا يدخل في الإسلام إلا به وهو كلمة لا إله إلا الله مجازا وأن يكون : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [ ص: 319 ] مجازا وأن يكون قوله : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) مجازا ، وأن يكون قوله : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) مجازا ، وفساد هذا معلوم بالضرورة لغة وشرعا وعقلا ، وقبح الله قولا يتضمن أن يكون : لا إله إلا الله مجازا فلا كان المجاز ولا يكون ولا هو كائن .

وسيأتي بيان أن أرباب المجاز يلزمهم أن يكون قولنا : محمد رسول الله مجازا ، بل ذلك صريح قولهم ، فإنهم صرحوا أن الإضافة تقييد ، وأصابوا في ذلك ، وصرحوا بأن اللفظ وضع مطلقا لا مقيدا ، فاستعماله في المقيد استعمال في غير ما وضع له كاستعمال العام في الخاص ، وذلك المجاز بعد التخصيص كهذا المجاز بعد التقييد ، فإن الإضافة تفيد المطلق كما أن الاستثناء والشرط والغاية والبدل والصفة تخص العموم ، وقد صرح ابن جني أن أكثر اللغة مجاز ، قال : وكذلك عامة الأفعال كقام وقعد وانطلق وجاء ، قال : لأن الفعل يستفاد منه الجنس ، ومعلوم أن الفاعل لم يكن منه جميع القيام ، وسيأتي تمام كلامه والبيان الواضح في فساده .

والمقصود أن على هذا القول الفاسد يكون قوله تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) وقوله : ( وأرسلناك للناس رسولا ) وقوله : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) كل ذلك مجاز لا حقيقة له ، بل كل فعل أضافه الرب إلى نفسه وإلى خلقه مجاز لا حقيقة له على قول هذا المبتدع الضال ، فإن الفعل جنس ، والجنس يطلق على جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الأمور والكائنات عن كل من وجد منه القيام ، ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله بالداخل تحت الوهم ، هذا محال ، وإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة .

فانظر كيف أقر واستدل وقرر أن أفعال الله كلها مجاز ، فخلق السماوات والأرض عنده مجاز ، وقد صرح بأن المجاز يصح نفيه ، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق مجاز عنده ، فقبح الله هذا القول ولا بارك الله في أصل يتضمن هذا الكفر والجنون ، وقد صرح مغل الجهمية بأن خلق واستوى مجاز فلا خلق في الحقيقة ولا استوى على [ ص: 320 ] عرشه ، فإن الخلق فعل ، فلا يصح قيامه به عندهم لأنه حادث فلم يقم به خلق البتة ، وإنما يقال : خلق على سبيل المجاز للتعلق العدمي بين المخلوق وبينه سبحانه .

وابن جني وذووه لو اعترفوا بأن له سبحانه أفعالا حقيقة لكانت كلها مجازا عندهم لما قرره من دلالة الفعل على جميع الأفراد والجنس ، وأما أن يستحيوا من العقلاء ويقولوا : إن ذلك حقيقة فيلزمهم التناقض ، وهو أيسر الإلزامين ، فالأفعال دالة على المصادر المطلقة لا العامة ، فإذا التزم هؤلاء أنها مجازات لتقييدها بفاعليها كان ذلك كالتزام أولئك أن الألفاظ العامة إذا خصت صارت مجازات ، فكما لزم أولئك أن تكون لا إله إلا الله مجازا ، لزم هؤلاء أن يكون محمد رسول الله مجازا ، إذ تقييد هذا المطلق قد أخرجه عندهم عن موضوعه ، كما أن تخصيص ذلك العام قد أخرجه عند أولئك عن موضوعه ، والطائفتان مخطئتان أقبح خطأ ، فاللفظ لم يخرج عن موضوعه بالتخصيص ولا التقييد ، ويزيده إيضاحا :

الوجه السابع والثلاثون : أن اللفظ لو كان يخرج بالتخصيص والتقييد عن موضوعه لكان عدة موضوعات بحسب تعدد قيوده ، فإما أن يدعى أنه مجاز في ذلك كله أو حقيقة في الجميع ، أو يفرق بين بعض المحال وبعض ، فالأول والثالث باطلان فيتعين الثاني .

مثال ذلك في الأفعال أنهم يقولون : قام ، فيفيد إثبات القيام ، ويقولون : ما قام فيفيد انتفاء القيام ، ويقولون : أقام ، فيفيد معنى آخر وهو الاستفهام عن وجود القيام ، ويقولون : متى قام فيفيد السؤال عن زمن قيامه ، ويقولون : أين قام فيفيد السؤال عن مكان قيامه ، ويقولون : يقوم فيفيد عن معنى قام ، ويقولون : قم ، فيفيد عن المعنيين .

وقد اختلفت دلالة اللفظ باختلاف هذه القيود ، وهي حقيقة في الجميع ، وكذلك إذا قلت : المسلمون كلهم في الجنة كان حقيقة ، وإذا قلت : الناس كلهم في النار إلا المسلمين كان حقيقة ، وإذا قلت : أعتق رقبة كان حقيقة ، وإذا قلت : مؤمنة كان حقيقة ، وكذلك إن زدت في تقييدها : بالغة عاقلة عربية ناطقة ، ونحو ذلك ، نقضت دلالة اللفظ المطلق ولم يخرج عن حقيقته ، ومن زعم أنه قد خرج عن حقيقته وموضوعه فقد أخطأ ، فهكذا إذا قلت : ركبنا البحر فهاج بنا كان حقيقة ، فإذا قلت : أتينا البحر فاقتبسنا منه علما كان حقيقة ، وكذلك إذا قلت : خرجنا في السفر ، فعرض لنا الأسد ، فقطع علينا الطريق ، كان كلاما بينا بنفسه في المراد منه ، فإذا قلت : نزلنا على [ ص: 321 ] الأسد فحمانا وأقرأنا كان بينا بنفسه ، وكان حقيقة ، وهو موضوع لكلا المعنيين ، مستعمل في موضوعه ، كالمطلق والمقيد وسواء ، فأي فرق بين ذلك حتى يدعى المجاز في بعض الاستعمالات والحقيقة في بعضها .

ولهذا لما تفطن لهذا من تفطن له من الأذكياء صاروا فريقين : فرقة أنكرت المجاز بالكلية ، وفرقة ادعت أن اللغة كلها إلا النادر منها مجاز ، فإنهم رأوا فساد تلك الفروق وتناقضها فلم يرضوا لأنفسهم بالتناقض والتحكم البارد ، يوضحه :

التالي السابق


الخدمات العلمية