مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الثالث عشر : أنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله خالقا ، ولهذا أقرت به جميع الأمم ، مؤمنهم وكافرهم ، ولظهور ذلك ، وكون العلم به بديهيا فطريا ، احتج الله به على من أشرك به في عبادته ، فقال : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) في غير موضع من كتابه ، فعلم أن كونه سبحانه خالقا من أظهر شيء عند العقول ، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازا ، وهو أصل كل حقيقة ، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده ، فهو الذي خلق وهو الذي علم ، كما قال تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه ، فكيف يكون كونه خالقا عالما مجازا ؟ وإذا كان كونه خالقا عالما مجازا لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة ، فصارت أفعاله كلها مجازات ، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات .

الوجه الخامس عشر : ألا ترى أنه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ، ولو كان خالقا حقيقة لا محالة لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا .

كلام باطل على أصل أصحابه القدرية وعلى أصل أهل السنة ، بل على أصول جميع الطوائف ، فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله الخالق حقيقة لا مجازا ، بل وعباد الأصنام وجميع الملل .

وأما إخوانه القدرية فإنهم قالوا إنه غير خالق لأفعال الحيوان الاختيارية ، فإنه لا يقول أحد منهم إنه خالق السماوات والأرض وما بينهما مجازا لكونه غير خالق لأفعال الحيوان ، فإنها لم تدخل تحت قوله : ( خلق الله السماوات والأرض ) بل لم تدخل عندهم تحت قوله : ( الله خالق كل شيء ) وإن دخلت تحت هذا اللفظ فهو عندهم عام مخصوص بالعقل نحو قوله : ( وأوتيت من كل شيء ) ، ( تدمر كل شيء ) فإن ادعوا المجاز فهم يدعونه في مثل هذا [ ص: 347 ] لكونه عالما مخصوصا ، وأما نحو قوله : ( خلق الله السماوات والأرض ) فلم يقل أحد قط إنه مجاز قبل ابن جني بناء على ما أصله من الأصل الفاسد : أن الفعل موضوع لجميع أفراد المصدر ، فإذا استعمل في بعضها كان مجازا .

الوجه السادس عشر : أنه أثبت المجاز بإنكار عموم قدرة الله تعالى ومشيئته للكائنات ، وإثبات عدة خالقين معه فكان دليله أخبث من الحكم المستدل عليه ، وقد اتفقت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجميع كتب الله المنزلة على إثبات القدرة ، وأن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه كتب في الذكر كل شيء ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا يكون في ملكه ما لا يشاء ، وأنه لو شاء لما عصاه أحد ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم ، وأنه أعان أهل طاعته بما لم يعن به أهل معصيته ، ووفق أهل الإيمان لما لم يوفق له أهل الكفر ، وأنه هو الذي جعل المسلم مسلما ، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء .

وبالجملة فلا يخرج حادث من الأعيان والأفعال عن قدرته وخلقه كما لا يخرج عن علمه ومشيئته ، هذا دين جميع المرسلين ، فاستدل هذا القائل على أن خلق الله السماوات والأرض مجاز بإنكار ذلك ودفعه وإخراج أشرف ما في ملكه عن قدرته وهو طاعات أنبيائه ورسله وأوليائه وملائكته ، فلم يجعله قادرا عليها ولا خالقا لها ، وكان سلفه الأولون يقولون لا يعلمها قبل كونها ، فانظر إلى إثبات المجاز ماذا جنى على أهله والى أين ساقهم وماذا قدم من معاقل الإيمان ، وأعجب من هذا الحكم ودليله .

الوجه السابع عشر : قوله : وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التي علم الله عليها قيام زيد هي الحالة التي علم عليها قعود عمر .

يريد أنه ليس لله علم في الحقيقة كما صرح به بقوله : ولسنا نثبت لله سبحانه علما لأنه عالم بنفسه ، وهذه مسألة إنكار صفات الرب سبحانه وأنه لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا إرادة فلا يقولون : عالم بعلم ولا قادر بقدرة ولا سميع بسمع ، ويقولون : يعلم ويسمع ويقدر بلا علم ولا قدرة ولا سمع ، وإذا كان كذلك فكان قولنا علم الله قيام زيد مجازا عندهم ، إذ لا علم له ، وعلمه فعل يدل على المصدر والصفة وليس في نفس الأمر عندهم لله علم ولا قدرة فجاء المجاز وانتفت الحقيقة .

فيقال لهم : قولكم إن الحال التي علم الله عليها قيام زيد ليست هي الحال التي [ ص: 348 ] علم عليها قيام عمر ، هذه الحال أمر وجودي أم عدمي ؟ فإن كانت عدمية فهي لا شيء ، كاسمها ، وإن كانت وجودية فإما أن تقوم بالعلم أو بالمعلوم أو بنفسها ، وقيامها بنفسها محال لأنها معنى ، وقيامها أيضا بالمعلوم محال ، لأنها لو قامت منه لكان هو العالم المدرك ، فتعين قيامها بالعالم ، وهذه هي صفة العلم التي أنكرتموها ، وهذا مما لا سبيل لكم إلى دفعه .

ولهذا لما أقر به ابن سينا ألزمه ابن الخطيب بثبوت الصفات إلزاما لا محيد له عنه ، فجاء ثور طوس ، وعلم أن ذلك يلزمه ، ففر إلى ما أضحك منه العقلاء ، وقال : أقول : إن العلم هو نفس المعلوم ، أعجب من ضلال هؤلاء القوم ، وفساد عقولهم أيكون الضارب هو نفس المضروب ، والشاتم نفس المشتوم ، والذابح هو نفس المذبح ، والناكح هو نفس المنكوح ؟

هذا أشد مناقضة للعقول من قول من قال الخلق نفس المخلوق ، فهؤلاء جعلوا الفعل هو عين المفعول ، ولم يثبتوا للفاعل فعلا يقوم به ، وهذا جعل العلم نفس المعلوم ، لم يجعل للعالم علما يقوم به .

الوجه الثامن عشر : قولك : وكذلك أيضا ضربت عمر مجاز من غير جهة التجوز في الفعل وأنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى وهي أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه .

فيقال : الأمر إن كان كذلك فإن العرب لم تضع لفظة ضربت زيدا لغير هذا المعنى ثم نقلته إلى غيره حتى يكون مجازا فيه ، بل لم تضعه ولم تستعمله قط إلا فيما يفهم منه كل أحد ، فدعوى أن ذلك مجاز كذب ظاهر على اللغة ، فلو أنهم وضعوا ضربت زيدا لوقوع الضرب على جميع أجزائه الظاهرة والباطنة ، ثم نقلوه إلى استعماله في إيقاعه على جزء من أجزاء بدنه أمكن أن يكون مجازا فيه ، بل استعماله في هذا المفهوم لا يختص باللغة العربية ، بل جميع الأمم على اختلاف لغاتها لا يريدون غير هذا المفهوم ، فدعوى أن الحقيقة التي وضع لها اللفظ تخالف ذلك دعوى كاذبة ، بل حقيقة هذا اللفظ التي وضع واستعمل في كل لسان هي إمساس بعض المضروب بآلة الضرب ، لا يعرف له حقيقة غير ذلك البتة .

الوجه التاسع عشر : أن الأفعال تختلف محالها ومتعلقاتها ، فمنها ما يكون الفعل فيه شاملا لجميع أجزاء المفعول ظاهره وباطنه كقولك خلق الله زيدا وأوجده وكونه وأحدثه ، ومنها ما يقع الفعل فيه على ظاهر المحل دون باطنه كقولك اغتسل زيد ، ومنها ما يقع على باطنه دون ظاهره نحو فرح زيد ورضي وغضب وأحب وأبغض ، [ ص: 349 ] ومنها ما يقع على بعض جوارحه نحو قام وتكلم وأحدث وأبصر وجامع وقبل وخالط وكتب ، فينسب الفعل في ذلك كله إلى جملته ، وهو حاصل ببعض أعضائه ، ومن قال : إن كل ذلك مجاز جاهر بالبهت والكذب ، فإن العرب لم تضع هذه الألفاظ قط لغير معانيها المفهومة منها ولم تنقلها عن موضعها إلى غيره .

ونظير هذا أن الصفات تجري على موصوفاتها حقيقة ، فمنها ما يكون لباطنه دون ظاهره كعالم وعاقل ومحب ومبغض وحسود ونحو ذلك ، ومنها ما يكون صفة للظاهر دون الباطن كأسود وأبيض وأحمر وطويل وقصير ، ومنها ما يعم الظاهر كله لهذه الصفات ، ومنها ما يخص بعضه كأعرج وأحدب وأشهل وأقرع وأخرس وأعمى وأصم ، وكذلك أسماء الفاعلين ، منها ما يعم جميع الذات ، كالمسافر ومنتقل ، ومنها ما يخص بعض الذات ككاتب وصانع ، والفعل صادق في ذلك كله ، واسم الفعل حقيقة لا مجاز باتفاق العقلاء ، ولم يشترط أحد من النسبة حقيقة أن يصدر الفعل عن اليد والرجل وجميع الأجزاء الظاهرة والباطنة ، وهذا كما أنه لا يشترط في الفاعل ، فلا يشترط في المفعول أن يعم الفعل أجزاءه جميعا ، بل من الأفعال ما يعم جميع المفعول نحو أكلت الرغيف ، ومنها ما يختص بجزء من أجزائه نحو قطعت الخشب والعمامة ، إذا أوقعت القطع في وسطها أو جزء منها ، ولو حاول إنسان في ذلك لكونه مجازا وقال : ما قطع الخشبة ولا العمامة لعد كاذبا .

ولما قال الله تعالى لموسى : ( اضرب بعصاك البحر ) لم يفهم موسى أن حقيقة ذلك ضرب جميع أجزاء البحر بعصاه ، بل الذي امتثله هو حقيقة الضرب المأمور به ، وعندهم أن هذا مجاز من جهة الضرب ومن جهة العصا ومن جهة المضروب ، وطريق التخلص إلى الحقيقة عندهم في مثل هذا أن يأتي بكلام في غاية الغي والاستكراه ، تعالى الله عنه علوا كبيرا ، فيقول : أوقع فردا من أفراد الضرب بجزء من أجزاء عصاك على جزء من أجزاء البحر ، فهذه السماجة والغثاثة عندهم هي الحقيقة وتلك الفصاحة والبلاغة عندهم هي المجاز .

وقد زعم بعض المتحذلقين أن قولك : جاء زيد ، وكلمت زيدا ، ونحوه مجاز من وجه آخر وهو أن زيدا اسم لهذا الموجود ، وهو من وقت الولادة إلى الآن قد ذهبت أجزاؤه واستخلف غيرها ، فإنه لا يزال في تحلل واستخلاف فليس زيد الآن هو الموجود وقت التسمية ، فقد أطلق الاسم على غير ما وضع له اللفظ أولا ، وأثبت هذا [ ص: 350 ] المتحذلق المجاز في الإعلام بهذه الطريق ، وعلى هذا التقدير فيكون محمد رسول الله مجازا أيضا من هذا الوجه ، ويكون اسم لمسمى من بني آدم مجازا ولا يتصور أن يكون حقيقة البتة ، وكفى بهذا القول سخفا وحمقا .

وتكايس بعضهم وأجاب عنه بأن قال : زيد اسم للنفس الناطقة وهي لا تتحلل ولا تتغير ، بل هي ثابتة من حين الولادة إلى حين الموت ، فلزمه ما هو أطعم من ذلك ، وهو أن يكون رأيت زيدا وضربت زيدا ، أو مرض زيد وأكل وشرب وركب وقام وقعد كله مجاز ، فإن الرؤية إنما وقعت على البدن لا على النفس وكذلك الضرب وبقية الأفعال .

والمقصود أن جعل ذلك كله مجازا خبط محض فإنه لا حقيقة للفظ سوى ذلك ، ولا يعرف له حقيقة خرج عنها إلى هذا الاستعمال حتى تصح دعوى المجاز فيه ، بل هكذا وضع ، وهكذا استعملته العرب ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها ، وليس لها عندهم مفهوم حقيقي ومفهوم مجازي ، وأما كون البدن في التحلل والاستخلاف فذاك أمر طبيعي لا تعلق له بالحقيقة والمجاز ، وإنما فسدت العلوم لما دخل فيها مثل هذه الهذيانات .

الوجه العشرون : قوله : إذا عرفت التوكيد ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكليهما عرفت منه حال سعة المجاز في الكلام .

فيقال له : ليس ذلك من أجل المجاز ، كما أن التوليد الذي يلحق الكلام من أوله بأن وبالقسم بلام ، والابتداء ليس لرفع المجاز نحو : ( إن الله غفور رحيم ) ولأنت تفري ما خلقت : ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ) وإنما هو الاعتناء به ، وتقويته في قلب السامع ، وتثبيت مضمونه ، وكذلك ما يلحقه في آخره من التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع ، كقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) فإن اللفظ بمجموعه دال على نسبة الفعل إلى كل فرد من أفراد الملائكة ، هذا حقيقته ، وتكون دلالته على المجموع كدلالة المقيد ببعض على ما قيد به ، نحو قوله : ( قم الليل إلا قليلا نصفه ) فهذا حقيقة في الجميع ، وهذا حقيقة في النصف ، فإن أطلق [ ص: 351 ] حمل على ما يدل عليه اللفظ من عموم أو إطلاق أو عهد فالأول كقوله : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) وقوله : ( قل أعوذ برب الناس ) والثاني كقوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) وقوله : ( تنزل الملائكة والروح فيها ) وقوله : ( يوم يرون الملائكة ) ، ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) والثالث كقوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) فهؤلاء ملائكة معينون ، وهم الذين أنزلهم الله تعالى يوم بدر للقتال مع المؤمنين ، واللفظ حقيقة في كل موضع من هذه المواضع مؤكدها ومجردها ، وعامها ومطلقها ، فيأتي المتكلم باللفظ المطابق للمعنى الذي يريده ، ولو أتى بغيره لم يكن قاصدا لكمال البيان ، فقد ظهر لك أن وقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على الحقيقة وقصدها عند الإتيان به وعند حذفه بحسب غرض المتكلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية