مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الرابع عشر : أن الرحمة مقرونة في حق العبد بلوازم المخلوق من الحدوث والنقص والضعف وغيره ، وهذه اللوازم ممتنعة على الله تعالى ، فإما أن تكون الرحمة اسما للقدر الممدوح فقط ، أو الممدوح وما يلزمه من النقص ، فإن كانت اسما للقدر الكامل الذي لا يستلزم نقصا ، وذلك ثابت للرب تعالى كانت حقيقة في حقه قطعا ، وإن كانت اسما للمجموع فالثابت للرب تعالى هو القدر الذي لا نقص فيه ، وغاية ذلك أن يكون قد استعمل لفظها في بعض مدلوله كالعام إذا استعمل في الخصوص ، والأمر إذا استعمل في الندب وذلك لا يخرج اللفظ عن حقيقته عند جمهور الناس .

قيل : هذا حقيقة عندهم ، فإن اللفظ يستعمل في المجموع عند إطلاقه ، وفي البعض عند تقييده ، والمطلق موضوع والمقيد موضوع ، كما تقدم ، لا سيما أكثر الناس يقولون : إن بعض الشيء وصفته ليس غيرا له ، كما أجاب مثبتو الصفات لنفاتها وحينئذ فلا يكون اللفظ مستعملا في غير موضوعه ، فلا يكون مجازا .

الوجه الخامس عشر : أن هذا النقض اللازم للصفة ليس هو من موضوعها ولا [ ص: 366 ] مسمى لفظها ، وإنما هو من خصوص الإضافة ، فالقدر الممدوح الذي هو موضوع الصفة والنقص اللازم غير داخل في موضوعها ، وكذلك لا دلالة في لفظها على العدم ، والوجود غاية الكمال الذي لا كمال فوقه ، وإنما ذلك من لوازم إضافتها ونسبتها إلى الرب سبحانه ، فإذا موضوع لفظها مطلق المعنى الممدوح ، وخصوص الإضافة غير داخل في اللفظ ، وعلى هذا فإذا استعملت في حق الرب تعالى كانت حقيقة ، وإذا استعملت للعبد كانت حقيقة .

فتدبر هذا فإنه فصل الخطاب فيما يطلق على الرب والعبد ، واعتبر هذا فيما يطلق على المخلوق نفسه فإنه حقيقة مع دلالته على غاية المدح في المحل ، وغاية الذم في محل آخر .

مثاله : قولك : هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وسمته ، وهذا كلام الصديق ، وهذا كلام المفتري ، فهذا حقيقة وهذا حقيقة ، وهما في غاية التضاد والاختلاف ، وهذا التعريف بالإضافة نظير التعريف باللام ينصرف إلى كل محل بحسبه ( فعصى فرعون الرسول ) هو موسى ، و ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم ) هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فرسول دال على القدر المشترك ، واللام تدل على تعريفه وتعيينه ، وكل من الموضعين حقيقة ، هذا مع أن اللفظ يستعمل مجردا عن التعريف كثيرا .

وأما لفظ الرحمة والسمع والبصر واليد والوجه والكلام فلا تكاد تستعمل إلا مضافة إلى محلها ، فلزوم الإضافة فيها نحو لزومها في الأسماء والأعلام ، ولا سيما المضافة إلى الرب كقوله : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ، ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) ، ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ، ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) ، ( بل يداه مبسوطتان ) ، ( خلقت بيدي ) فهذه الإضافة تمنع أن يدخل في اسم الصفة شيء من خصائص المخلوقين بوجه من الوجوه ، فالمحذوف الذي أوجب لهم دعوى المجاز فيها منتف بالإضافة قطعا فلا وجه لدعوى المجاز فيها البتة ، وهذا ظاهر جدا ، فإنها بإضافتها الخاصة دلت على ما لا تسعه العبارة من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه .

[ ص: 367 ] الوجه السادس عشر : أن يقال لمن أثبت شيئا من الصفات بالعقل فلا بد أن يأتي في الدلالة على ذلك بقياس شمولي أو قياس تخييلي ، فتقول في الشمولي : كل فعل منقل محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته ، وهذه المخلوقات كذلك فهي . دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته ، وتقول في التمثيل : الفعل المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد ، فكان دليلا في الغائب ، والدلالة العقلية لا تختلف شاهدا وغائبا ، فلا يمكنك أن تثبت له سبحانه بالعقل صفة أو فعلا إلا بالقياس المتضمن قضية كلية ، إما لفظا كما في قياس الشمول ، وإما معنى كما في قياس التمثيل .

فإذا كنت لا يمكنك ثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لا بد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه ، وبين أفراد القضية الكلية ولم يكن هذا عندك تشبيها ممتنعا ، فكيف تنكر معاني ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائقه بزعمك أنه يتضمن تشبيها ، وهذا من أنفع الأشياء لمن له فهم ، فإن الله أخبر في كتابه بما هو عليه من أسمائه وصفاته ولا بد في الأسماء المشتقة المتواطئة من معنى مشترك بين أفرادها ، فجحد المعطلة حقائقها لما زعموا فيها من التشبيه ، وهم لا يمكنهم إثبات شيء يعتقدونه إلا بنوع من القياس المتضمن التشبيه الذي فروا منه ، لا في جانب النفي ولا في جانب الإثبات ، فهم منكرون ما جاءت به الرسل بما هو من نوعه أو دونه ، وهذا غاية الضلال ، فليتأمل ذلك .

الوجه السابع عشر : أن من ادعى أن رحمة الله مجاز أو اسمه الرحمن الرحيم ، إما أن يثبت لهذا اللفظ معنى أو لا ، والثاني يقر المنازع ببطلانه ، وإذا كان لا بد من إثبات معنى لهذا اللفظ ، فإما أن يتضمن محذورا أو لا ، فإن تضمن محذورا لم يجز إثباته ، وإن لم يتضمن محذورا لم يمكن إثباته لإخراج اللفظ عن حقيقته أولى من بقاء اللفظ على حقيقته ، وإثبات معناه الأصلي ، إذ انتفاء المحذور عن الحقيقة والمجاز واحد ، وتسلم الحقيقة وهي الأصل ، فأما إخراج اللفظ عن حقيقته لأمر لا يتخلص به في المجاز ولا محذور منه في الحقيقة ولا في المجاز معنى له بل هو خطأ محض .

الوجه الثامن عشر : أن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته والرضوان وثوابه المنفصل فقال تعالى : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) فالرحمة والرضوان صفته والجنة ثوابه ، وهذا يبطل قول من جعل الرحمة [ ص: 368 ] والرضوان ثوابا منفصلا مخلوقا ، وقول من قال : هي إرادته الإحسان ، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة ، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها ، وهو إرادة الإحسان ، وكذلك لفظ اللعنة والغضب والمقت هي أمور مستلزمة للعقوبة ، فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها ، فإن ثبوت لازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع ، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها .

الوجه التاسع عشر : أن ظهور آثار هذه الصفة في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة ، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة تامة وسعت كل شيء ، كما أن الموجودات كلها شاهدة له بالربوبية التامة الكاملة ، وما في العالم من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه ، فجعل صفة الرحمة واسم الرحمة مجازا كجعل صفة الملك والربوبية مجازا ، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة .

وإذا أردت أن تعرف بطلان هذا القول فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة ، فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمى وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا ، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم ، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا ، وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار ، وبسط الأرض ، وجعلها مهادا وفراشا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى ، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر ، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها ، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان .

فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته ، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم ، وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته ، وأوسع المخلوقات عرشه ، وأوسع الصفات رحمته ، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابا ، فهو عنده وضعه [ ص: 369 ] على عرشه أن رحمته سبقت غضبه ، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة ، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها ، فبرحمته خلقت ، وبرحمته عمرت بأهلها ، وبرحمته وصلوا إليها ، وبرحمته طاب عيشهم فيها ، وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور ، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ، ومن نفسه بنفسه ، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه ، وألقى بينهما المحبة والرحمة ، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل ، وانتفاع الزوجين ، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه ، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم وانحل نظامها ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير ، والعزيز والذليل ، والعاجز والقادر ، والراعي والمرعي ، ثم أفقر الجميع إليه ، ثم عم الجميع برحمته .

ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة ، نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والطير والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه .

وتأمل قوله تعالى ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) كيف جعل الخلق والتعليم ناشئا عن صفة الرحمة متعلقا باسم الرحمن ، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة ، إذ مجيء البركة كلها منه ، وبه وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه وكل ما خلي منه نزعت منه البركة ، فإن كان مذكى وخلي منه اسمه كان ميتة ، وإن كان طعاما شارك صاحبه فيه الشيطان ، وإن كان مدخلا دخل معه فيه ، وإن كان حدثا لم يرفع عند كثير من العلماء ، وإن كان صلاة لم تصح عند كثير منهم .

[ ص: 370 ] ولما خلق سبحانه الرحم واشتق لها اسما من اسمه ، فأراد إنزالها إلى الأرض تعلقت به سبحانه فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال : ألا ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك ؟ وهي متعلقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل ، وكان تعلقها بالعرش رحمة منه بها ، وإنزالها إلى الأرض رحمة منه بخلقه ، ولما علم سبحانه ما تلقاه من نزولها إلى الأرض ومفارقتها لما اشتقت منه رحمها بتعلقها بالعرش واتصالها به ، وقوله : " ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " .

ولذلك كان من وصل رحمه لقربه من الرحمن ، ورعاية حرمة الرحم ، قد عمر دنياه ، واتسعت له معيشته ، وبورك له في عمره ، ونسئ له في أثره ، فإن وصل ما بينه وبين الرحمن جل جلاله مع ذلك وما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان تم له أمر دنياه وأخراه ، وإن قطع ما بينه وبين الرحم وما بينه وبين الرحمن أفسد عليه أمر دنياه وآخرته ، ومحق بركة رحمته ورزقه وأثره ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له من العقوبة يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم " ، فالبغي معاملة الخلق بضد الرحمة ، وكذلك قطيعة الرحم ، وإن القوم ليتواصلون وهم فجرة فتكثر أموالهم ويكثر عددهم ، وإن القوم ليتقاطعون فتقل أموالهم ويقل عددهم ، وذلك لكثرة نصيب هؤلاء من الرحمة وقلة نصيب هؤلاء منها .

وفي الحديث : " إن صلة الرحم تزيد في العمر " وإذا أراد الله بأهل الأرض خيرا نشر عليهم أثرا من آثار اسمه الرحمن فعمر به البلاد وأحيا به العباد ، فإذا أراد بهم ضرا أمسك عنهم ذلك الأثر ، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن ، ولهذا إذا أراد الله سبحانه أن يخرب هذه الدار ويقيم القيامة أمسك عن أهلها [ ص: 371 ] أثر هذا الاسم وقبضه شيئا فشيئا ، حتى إذا جاء وعده قبض الرحمة التي أنزلها إلى الأرض ، فتضع لذلك الحوامل ما في بطونها ، وتذهل المراضع عن أولادها ، فيضيف سبحانه تلك الرحمة التي رفعها وقبضها من الأرض إلى ما عنده من الرحمة فيكمل بها مائة رحمة فيرحم بها أهل طاعته وتوحيده وتصديق رسله وتابعهم .

وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو بهوائه ، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله : " سبقت رحمتي غضبي " فالمسبوق لا بد لاحق وإن أبطأ ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة ، فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز .

الوجه العشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقسم صادقا بارا " إن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها " ، وفي هذا إثبات كمال الرحمة ، وأنها حقيقة لا مجازية ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة أصيبت في السبي ، وكانت كلما مرت بطفل أرضعته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ " قالوا لا يا رسول الله ، وهي قادرة على أن لا تطرحه ، فقال : " الله أرحم بعباده من هذه بولدها " فإن كانت رحمة الوالدة حقيقة فرحمة الله أولى بأن تكون حقيقة منها ، وإن كانت رحمة الله مجازا فرحمة الوالدة لا حقيقة لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية