مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السادس والثلاثون : أن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول ، وقد صرح المنكرون للاستواء بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره ، كما قال صاحب المحصول وغيره ، وهذا لفظه " لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويعني به خلاف ظاهره " والخلاف مع المرجئة ، ثم احتج على ذلك بأنه عبث وهو على الله محال ، والذي احتج به على المرجئة يحتج به عليه أهل السنة بعينه ، وهذا الذي قاله هو الحق وهو ما اتفق عليه العقلاء ، فلا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويريد به خلاف ظاهره إلا وفي السياق ما يدل على ذلك بخلاف المجمل ، فإنه يجوز عندهم أن يتكلم به لأنه لم يرد به خلاف ظاهره ، والفرق بينهما إيقاع الأول في اللبس واعتقاد الخطأ بخلاف المجمل ، فكيف إذا كان مع ظاهره من القرآن ما ينفي إرادة غيره ، فدعوى إرادة غير الظاهر حينئذ ممتنع من الوجهين .

الوجه السابع والثلاثون : أن حقيقة هذا المجاز أنه ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إلا العدم المحض ، وليس هناك من ترفع إليه الأيدي ويصعد إليه الكلم الطيب ، وتعرج الملائكة والروح إليه ، وينزل الوحي من عنده ويقف العباد بين يديه ، ولا عرج برسوله إليه حقيقة ، ولا رفع المسيح إليه حقيقة ولا يجوز أن يشير إليه أحدنا بإصبعه إلى فوق كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يقال : أين هو كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يسمع من يقول : أين ويقره عليه ، كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من السائل وأقره عليه ، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا فوقهم ولا له حجاب حقيقة يحتجب به عن خلقه ، ولا يقرب منه شيء ، ولا يبعد منه شيء ، ونسبته من فوق السماوات كلها إلى القرب منه كنسبة من في أسفل سافلين ، كلها في القرب من ذاته سواء ، فهذا حقيقة هذا المجاز وحاصله ، ومعلوم أن هذا أشد مناقضة لما جاءت به الرسل منه للمعقول الصريح ، فيكون من أبطل الباطل .

[ ص: 387 ] الوجه الثامن والثلاثون : أن الله سبحانه ذم المحرفين للكلم ، والتحريف نوعان : تحريف اللفظ ، وتحريف المعنى ، فتحريف اللفظ : العدول به عن جهته إلى غيرها ، إما بزيادة وإما بنقصان وإما بتغيير حركة إعرابية ، وإما غير إعرابية ، فهذه أربعة أنواع ، وقد سلك فيها الجهمية والرافضة ، فإنهم حرفوا نصوص الحديث ولم يتمكنوا من ذلك في ألفاظ القرآن ، وإن كان الرافضة حرفوا كثيرا من لفظه ، وادعوا أن أهل السنة غيروه عن وجهه .

وأما تحريف المعنى فهذا الذي جالوا وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلا ، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة ، وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته ، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما ، وأصحاب تحريف الألفاظ شر من هؤلاء من وجه وهؤلاء شر من وجه ، فإن أولئك عدلوا باللفظ والمعنى جميعا عما هما عليه أفسدوا اللفظ والمعنى ، وهؤلاء أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيرا من أولئك من هذا الوجه ، ولكن أولئك لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظا يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف ، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه ، فبدءوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا .

الوجه التاسع والثلاثون : أن استواء الرب المعدى بأداة " على " المعلق بعرشه المعرف باللام المعطوف بثم على خلق السماوات والأرض المطرد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد ، لا يحتمل إلا معنى واحدا لا يحتمل معنيين البتة ، فضلا عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب ( القواصم والعواصم ) إذا قال لك المجسم : ( الرحمن على العرش استوى ) فقل : استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجها فأيها تريد ؟

فيقال له : كلا والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين البتة ، والمدعي الاحتمال عليه بيان الدليل ، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز ، ولم يذكر على دعواه دليلا ولا بين الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله " فأيها تريدون وأيها تعنون " وكان ينبغي له أن يبين كل احتمال ويذكر الدليل على ثبوته ، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتعيين أحد الاحتمالات ، وإلا فهم يقولون : لا نسلم احتماله لغير معنى [ ص: 388 ] واحد ، فإن الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة ، دون الاشتراك والمجاز فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال ، فدعواك أن هذا اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى دعوى مجردة ليست معلومة بضرورة ولا نص ولا إجماع ، يوضحه :

الوجه الأربعون : وهو أن يقال : الاحتمالات التي ادعيتها تتطرق إلى لفظ الاستواء وحده المجرد عن اتصاله بأداة أم إلى المقترن بواو المصاحبة أم إلى المقترن بإلى أم إلى المقترن بعلى ، أم إلى كل واحد من ذلك ، وكذلك العرش الذي ادعيت أنه يحتمل عدة معان هو العرش المنكر غير المعرف بأداة تعريف ولا إضافة أم المضاف إلى العبد كقول عمر :

كاد عرشي أن يهد ، أم إلى عرش الدار

وهو سقفها في قوله : ( خاوية على عروشها ) أم إلى عرش الرب تبارك وتعالى الذي هو فوق سماواته ؟ أم إلى كل واحد من ذلك ، فأين مواد الاحتمال حتى يعلم هل صحيحة أم باطلة ، فلا يمكنك أن تدعي ذلك في موضع معين من هذه المواضع ، ودعواه بهت صريح ، وغاية ما تقدر عليه أنك تدعي مجموع الاحتمالات في مجموع المواضع بحيث يكون كل موضع له معنى ، فأي شيء ينفعك هذا في الموضع المعين ، فسبحان الله ! أين هذا من القول السديد الذي أوصانا الله به في كتابه حيث يقول : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) والسديد هو الذي يسد موضعه ويطابقه فلا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وسداد السهم هو مطابقته وإصابته الغرض من غير علو ولا انحطاط ولا تيامن ولا تياسر .

والمقصود : أن استواء الرب على عرشه المختص به الموصول بأداة على نص في معناه لا يحتمل سواه .

الوجه الحادي والأربعون : أنا نمنع الاحتمال في نفس الاستواء مع قطع النظر عن صلاته المقرون بها وأنه ليس له إلا معنى واحد وإن تنوع بتنوع صلاته ، كنظائره من الأفعال التي تنوع معانيها بتنوع صلاتها كملت عنه وملت إليه ورغبت عنه ورغبت فيه ، وعدلت عنه وعدلت إليه ، وفررت منه وفررت إليه ، فهـذا لا يقال له مشترك ولا مجاز ، بل حقيقة واحدة تنوعت دلالتها بتنوع صلاتها ، وهكذا لفظ الاستواء هو بمعنى الاعتدال حيث استعمل مجردا أو مقرونا ، تقول : سويته فاستوى ، كما يقال : عدلته [ ص: 389 ] فاعتدل ، فهو مطاوع الفعل المتعدي ، وهذا المعنى عام في جميع موارد استعماله في اللغة ، ومنه استوى إلى السطح أي ارتفع في اعتدال ، ومنه استوى على ظهر الدابة أي اعتدل عليها ، قال تعالى : ( لتستووا على ظهوره ) وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استوى على راحلته فهو يتضمن اعتدالا واستقرارا عند تجرده ويتضمن المقرون مع ذلك معنى العلو والارتفاع ، وهذا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع قيودها كما تتنوع دلالة الفعل بحسب مفعولاته وصلاته ، وما يصاحبه من أداة نفي أو استفهام أو نهي أو إغراء فيكون له عند كل أمر من هذه الأمور دلالة خاصة والحقيقة واحدة .

فهذا هو التحقيق لا الترويج والتزويق ، وادعاء خمسة عشر معنى لما ليس له إلا معنى واحد ، وهذا شأن جميع الألفاظ المطلقة إذا قيدت فإنها تتنوع دلالتها بحسب قيودها ولا يخرجها ذلك من حقائقها ( فضرب ) مع المثل له معنى وفي الأرض له معنى والبحر له معنى والدابة لها معنى ، إذ هو إمساس بإيلام ، فإن صاحبته أداة النفي صار له معنى آخر ، وإن كانت أداة استفهام أو نهي أو تمن أو تخصيص اختلفت دلالته ، وحقيقته واحدة في كل وضع يقترن به ما يبين المراد .

فإذا قال قائل في قوله تعالى : ( واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) أن الضرب له عدة معان فأيها المراد كان كالنظائر قول هذا القائل : إن الرحمن على العرش استوى له خمسة عشر وجها ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن في الوجه الأول يتبين أن مجموع اللفظ وصلته يدلان على غير ما دل عليه اللفظ مع الصلة الأخرى ، وفي هذا الوجه يتبين أن مطلق اللفظ يدل على المعنى المشترك وأن اختصاصه في محاله هو من اقترانه بتلك الصلة ولا منافاة بينهما ، فالتركيب يحدث للمركب حالة أخرى سواء كان المركب من المعاني أو من الألفاظ أو الأعيان أو الصفات مخلوقها ومصنوعها .

فعلى هذا إذا اقترن استوى بحرف الاستعلاء دل على الاعتدال بلفظ الفعل وعلى العلو بالحرف الذي وصل به ، فإن اقترن بالواو دل على الاعتدال بنفسه وعلى معادلته بعد الواو بواسطتها ، وإذا اقترن بحرف الغاية دل على الاعتدال بلفظه وعلى الارتفاع قاصدا لما بعد حرف الغاية بواسطتها ، وزال بحمد الله الاشتراك والمجاز ووضح المعنى وأسفر صبحه وليس الفاضل من يأتي إلى الواضح فيعقده ويعميه ، بل من [ ص: 390 ] يأتي إلى المشكل فيوضحه ويبينه ، ومن الله سبحانه وتعالى البيان وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم .

ونحن نشهد أن الله قد بين غاية البيان الذي لا بيان فوقه ، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين فبلغ المعاني كما بلغ الألفاظ والصحابة بلغوا عنه الأمرين جميعا ، وكان تبليغه للمعاني أهم من تبليغه للألفاظ ولهذا اشترك الصحابة في فهمها ، وأما حفظ القرآن فكان في بعضهم ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان وعبد الله بن مسعود أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعا .

وهذه الآثار المحفوظة عن الصحابة والتابعين كلها متفقة على أن الله نفسه فوق عرشه ، وقال أئمة السنة : بذاته فوق عرشه وأن ذلك حقيقة لا مجاز وأكثر من صرح أئمة المالكية كما تقدم حكاية ألفاظهم .

الوجه الثاني والأربعون : أنا لو فرضنا احتمال اللفظ في اللغة لمعنى الاستيلاء والخمسة عشر معنى ، فالله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد عين بكلامه منها معنى واحدا ونوع الدلالة عليه أعظم تنويع حتى يقال بذلك ألف دليل ، فالصحابة كلهم متفقون لا يختلفون في ذلك المعنى ولا التابعون وأئمة الإسلام ، ولم يقل أحد منهم إنه بمعنى استولى وأنه مجاز ، فلا يضر الاحتمال بعد ذلك في اللغة لو كان حقا ، ولماسئل مالك وسفيان بن عيينة وقبلهما ربيعة بن عبد الرحمن عن الاستواء فقالوا : الاستواء معلوم ، تلقى ذلك عنهم جميع أئمة الإسلام ولم يقل أحد منهم إنه يحتاج إلى صرفه عن حقيقته إلى مجازه ولا أنه مجمل له مع العرش خمسة عشر معنى ، وقد حرف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال معناه الاستواء معلوم لله ، فنسبوا السائل إلى أنه كان يشك هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه ، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال : إنما أراد به أن ورود لفظه في القرآن معلوم ، فنسبوا السائل والمجيب إلى اللغة فكأن السائل لم يكن يعلم أن هذا اللفظ في القرآن ، وقد قال يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فلم يقل هل هذا اللفظ في القرآن أو لا ؟ ونسبوا المجيب إلى أنه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد ، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه ولا استشكله السائل ، ولا خطر بقلب المجيب أنه يسأل عنه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية