مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 396 ] الوجه الثالث عشر : أن الله تعالى أنكر على اليهود نسبة يده إلى النقص والعيب ولم ينكر عليهم إثبات اليد له تعالى فقال : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) فلعنهم على وصف يده بالعيب دون إثبات يده وقدر إثباتها به زيادة على ما قالوه بأنهما يدان مبسوطتان ، وبهذا يعلم تلبيس الجهمية المعطلة على أشباه الأنعام حيث قالوا إن الله لعن اليهود على إثبات اليد له سبحانه ، وأنهم مشبهة وهم أئمة المشبهة ، فتأمل هذا الكذب من هذا القائل والتلبيس ، وأن الآية صريحة بخلاف قوله .

الوجه الرابع عشر : أن يد القدرة لا يعرف في الاستعمال أن يقال فيها : يد فلان كذا هكذا ، فضلا عن أن يقال : فعل هذا بيمينه ، فضلا عن أن يقال : فعله بيديه ، فضلا عن أن يقال : فعله بيمينه ، وإنما المستعمل في يد القدرة والنعمة أن تكون مجردة عن الإضافة وعن التثنية وعن نسبة الفعل إليها ، فيقال : لفلان عندي يد ، ولولا يد له عندي ، ولا يكادون يقولون يده أو يداه عندي ، وله عندي يده ويداه ، يوضحه :

الوجه الخامس عشر : أن اليد حيث أريد بها النعمة أو القدرة فلا بد أن يقترن باللفظ ما يدل على ذلك ليحصل المراد ، فأما أن تطلق ويراد بها ذلك فهذا لا يجوز كما إذا أطلق البحر والأسد وادعى بذلك أنه أريد به الرجل الجواد والشجاع ، فهذا لا يجيزه عاقل ، ولا يتكلم به إلا من قصده التلبيس والتعمية ، وحيث أراد تلك المعاني فإنه يأتي من القرائن بما يدل على مراده ، فأين معكم في قوله : ( لما خلقت بيدي ) و ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " ، " فأقوم عن يمين ربي " ، وقوله : " فيوقف بين يدي الرحمن " ما يدل على إرادة المجاز .

الوجه السادس عشر : أن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة ، فهذه موارد استعمالها من أولها إلى آخرها مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي إما أن تكون يدا حقيقة أو مستلزمة للحقيقة ، وإما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقة ، وهو حي متصف بصفات الأحياء فهذا لا يعرف البتة .

وسر هذا أن الأعمال والأخذ والعطاء والتصرف لما كان باليد وهي التي تباشره عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها ، وهذا يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصح استعمالها [ ص: 397 ] في مجرد القوة والنعمة والإعطاء ، فإذا انتفت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها فيما يكون باليد فثبوت هذا الاستعمال المجازي من أدل الأشياء على ثبوت الحقيقة ، فقوله تعالى في حق اليهود ( غلت أيديهم ) هو دعاء عليهم بغل اليد المتضمن للجبن والبخل ، وذلك لا ينفي ثبوت أيديهم حقيقة ، وكذلك قوله في المنافقين ( ويقبضون أيديهم ) كناية عن البخل ولا ينفي أن يكون لهم أيد حقيقة ، وكذلك قوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) المراد به النهي عن البخل والتقتير والإسراف ، وذلك مستلزم لحقيقة اليد ، وكذلك قوله تعالى : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) أي يتولى عقدها ، وهو إنما يعقدها بلسانه ، ولكن لا يقال ذلك إلا لمن له يد حقيقة ، وكذلك قوله : ( ولما سقط في أيديهم ) هو كناية عن الندم وتيقن التفريط والإضاعة بمنزلة من سقط منه الشيء فيحيل بينه وبينه ، وأتى في هذا بلفظ ( في ) دون ( من ) لأن الندم سقط في أيديهم وثبت فيها واستقر ، ولو قيل : سقط من أيديهم لم يدل على هذا المعنى ، وعين لفظ اليد لهذا المعنى لوجهين : أحدهما : أنه يقال لمن حصل له شيء وإن لم يقع في نفس يده حصل في يده كذا وكذا من الخير والشر ، كما يقال : كسبت يده وفعلت يده ، وإن كان لغيرها من الجوارح .

الوجه الثاني : أن الندم حدث يحصل في القلب وأثره يظهر في اليد ، لأن النادم يعض يديه تارة ، ويضرب إحداهما بالأخرى تارة ، قال تعالى : ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ) وقال تعالى : ( ويوم يعض الظالم على يديه ) فلما كان أكثر الندم يظهر على اليد أضيف سقوط الندم إليها ; لأن الذي يظهر للعيان من فعل الندم هو تقليب الكف وعض الأنامل ، وأتى بهذا الفعل على بناء ما لم يسم فاعله إيهاما لشأن الفعل كقولهم : دهي فلان وأصيب بأمر عظيم .

والمقصود أن مثل ذلك لا يقال إلا لمن له يد حقيقة ، فإذا قيل : وسقط في يده عرف السائل أن هذا الكلام مستلزم لحقيقة اليد ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 398 ] " أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا " فكن يخرجن أيديهن ليعلمن أيتهن أطول يدا ، فلما سبقتهن زينب إلى اللحاق به ولم تك يدها الذاتية أطول من أيديهن علمن أنه أراد طولها بالصدقة ، وكانت تسمى أم المساكين لكثرة صدقتها ، ومثل هذا اللفظ يحتمل المعنيين ، ولهذا فهم نساؤه منه وهن أفصح نساء العرب اليد الحقيقية ، حتى تبين لهن أخيرا أنه طولها بالصدقة ، وهذا من التعريض المباح بأن يذكر لفظا محتملا لمعنيين ومراده أحدهما ، كقوله : " نحن من ماء " ، وقوله : " ذاك الذي في عينيه بياض " ، وقوله : " الجنة لا يدخلها العجزة " ، وقول الصديق : هذا هاد يهديني السبيل ، ولكن لا يستعمل طول اليد بالصدقة إلا في حق من له يد ذاتية ، فسواء كان المراد بقوله : " أطولكن يدا " اليد الذاتية أو اليد المعنوية فهو مستلزم لثبوت يد الذات وإن أطلق على ما تباشره ويكون بها من الصدقة والإحسان ، فإن كان في اللفظ ما يعين ذلك فهو حقيقة في المراد ، وإن لم يكن في اللفظ ما يعينه فهو للكناية المستعملة في المصلحة ، فليس في ذلك ما ينفي حقيقة اليد لله بوجه من الوجوه .

فإن قيل : كيف تصنعون بيد الحائط في قولة لبيد :


إذ أصبحت بيد الشمال زمامها



وقول المتنبي :

وكم لظلام الليل عندي من يد     تخبر أن المانوية تكذب

وقد استعملت اليد في ذلك كله في مواضع حقيقة .

قيل : لا يلزمنا هذا السؤال لأنا قلنا : متى أضيفت يد القدرة والنعمة إلى الحي استلزمت اليد الحقيقية ، وهذا استعمال مطرد غير منتقض وهذا يتعين : بالوجه السابع عشر : وهو أن الإضافة في يد الشمال ويد الحائط ويد الليل بينت أن المضاف من [ ص: 399 ] جنس المضاف إليه ، والإضافة في البعير والفرس وغيرهما من الحيوان كذلك ، والإضافة في يد الملك والجن تبين أيضا أن يديهما من جنسيهما ، وكذلك الإضافة في يد الإنسان وكل ذلك حقيقة ، كذلك إضافة اليدين إلى الرحمة في قوله : ( بين يدي رحمته ) وإلى النجوى في قوله : ( بين يدي نجواكم صدقة ) فإن بين يدي الشيء أمامه وقدامه ، وهذا مما يتنوع فيه المضاف إليه وإن اختلفت ماهية الحقيقة وصفتها ، وتنوعت بتنوع المضاف إليه .

فإذا قيل : يد الله ووجهه ، وسمعه وبصره ، وحياته وعلمه ، وقدرته ومشيئته ، وإتيانه واستواؤه ، كان ذلك حقيقة والمضاف فيه بحسب المضاف إليه ، فإذا لم يكن المضاف إليه مماثلا لغيره لزم أن يكون المضاف كذلك ضرورة ، فدعوى لزوم التشبيه والتمثيل في إثبات المضاف حقيقة زعم كاذب ، فإن لزم من إثبات اليد حقيقة لله التمثيل والتشبيه لزم ذلك في إثبات سائر الصفات له حقيقة ، ويلزم ذلك في إثبات صفاته ، فإن الصفة القديمة متى أشبهت صفات المخلوقين لزم وقوع التشبيه بين الذاتين .

الوجه الثامن عشر : أن يقال : ما الذي يضركم من إثبات اليد حقيقة ، وليس معكم ما ينفي ذلك من أنواع الأدلة لا نقليها ولا عقليها ولا ضروريها ولا نظريها ، فإن فررتم من الحقيقة خشية التشبيه والتمثيل ، ففروا من إثبات السمع والبصر والحياة والعلم والإرادة والكلام خشية هذا المحذور .

ثم يقال لكم : توهمكم لزوم التشبيه والتمثيل من إثبات هذه الصفة وغيرها وهم باطل ، وليس في المخلوقات يد تمسك السماوات والأرض وتطويها ، ويد تقبض الأرضين السبع ، ولا إصبع توضع عليها الأرض ، وإصبع توضع عليها الجبال ، فلو كان في المخلوقات يد وإصبع يد هذا شأنها لكان لكم عذر ما في توهم التشبيه والتمثيل من إثبات اليد والإصبع لله حقيقة ، وإنما هذا تلبيس منكم على ضعفاء العقول .

وإن فررتم خشية التجسيم والتركيب ففروا من سائر الصفات من أولها إلى آخرها لأجل هذا المحذور ، فإن ادعيتم أن التجسيم والتركيب يلزم مما فررتم منه دون ما لم تفروا منه ظهر بطلان دعواكم للعقلاء قاطبة ، فإن الصفات أعراض لا تقوم بنفسها ، وقيامها بمحلها مستلزم لما تدعون أنه تجسيم وتركيب .

[ ص: 400 ] ثم يقال لكم : ما تريدون بالتجسيم والتركيب اللازم ؟ أتريدون به ما تقوم به الصفات فكأنكم قلتم : لا تقوم به لأنها لو قامت به لزم قيامها به ، هذا حقيقة قولكم عند العقلاء ، فسويتم بين اللازم والملزوم ونفيتم الشيء بنفسه ، أم تريدون به التركيب من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة فالملازمة ممنوعة ، وأكثر العقلاء على أن الأجسام المحدوثة غير مركبة لا من هذا ولا من هذا ، فكيف يلزم هذا من ثبوت الصفات للرب تعالى ، وإن أردتم مماثلته لسائر الأجسام فهذا بناء منكم على أصلكم الفاسد عند كافة العقلاء أن الأجسام متماثلة ، فادعيتم دعويين كاذبتين : لزوم التجسيم من إثبات صفاته ، ولزوم تماثل الأجسام .

والمقصود أن ما فررتم منه ، إن كان محذورا ، فهو غير لازم لإثبات الوجه واليد والسمع والبصر والعلو وسائر الصفات ، وإن لم يكن محذورا فلا وجه للفرار ، بل هو لازم إثبات الصفات الذي هو حق ، ولازم الحق حق ، فأنتم بين دعويين كاذبتين إحداهما دعوى ملازمة كاذبة ، أو دعوى انتفاء لازم الحق في ثبوته ، فإما أن تحيطوا به في المقدمة اللزومية أو في الاستثنائية أو فيهما ، وهذا مطرد في كل ما ادعيتم نفيه .

الوجه التاسع عشر : أن هذه الألفاظ كلفظ اليدين والوجه إما أن يكون لها معنى أو تكون ألفاظا مهملة لا معنى لها ، والثاني ظاهر الاستحالة وإذا لم يكن بد من إثبات معنى لها فلا ريب أن ذلك المعنى قدر زائد على الذات وله مفهوم غير مفهوم الصفة الأخرى ، فأي محذور لزم في إثبات حقيقة اليد لزم مثله في مجازها ، ولا خلاص لكم من ذلك إلا بإنكار أن يكون لها معنى أصلا ، وتكون ألفاظا مجردة ، فإن المعنى المجازي إما القدرة وإما الإحسان ، وهما صفتان قائمتان بالموصوف ، فإن كانتا حقيقيتين غير مستلزمين لمحذور فهلا حملتم اليد على حقيقتها وجعلتم الباب بابا واحدا ، وإن كانت مجازا وهو حقيقة قولكم فلا يد ولا قدرة ولا إحسان في الحقيقة وإنما ذلك مجاز محض ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن ذلك إلزام المجاز في الصفات التي وافقوا على أنها حقيقة وهذا إلزام نفي ما ادعوا أنه مجاز اليد ، فيلزمهم نفي ذلك كله إن استلزم تشبيها أو تجسيما ، أو إثبات الجميع إن لم يستلزم ذلك ، وأما كون بعض الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم ، وبعضها لا يستلزمه ، فهذا غير معقول ولا معلوم بصورة ولا نظر ولا نص ولا قياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية