مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المثال السادس : قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) ومن أسمائه النور ، وقالت المعطلة : ذلك مجاز ، معناه منور السماوات والأرض بالنور المخلوق ، قالوا : ويتعين المجاز لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الله تعالى ليس هو هذا النور المنبسط على الجدران ، ولا هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ، فإما أن يكون مجازه منور السماوات ، أو هادي أهلها .

وبطلان هذا يتبين بوجوه : الأول : أن النور جاء في أسمائه تعالى ، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول وأثبتوه في أسمائه الحسنى ، وهو في حديث أبي هريرة والذي رواه الوليد بن مسلم ومن طريقه رواه الترمذي والنسائي ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة ، ومحال أن يسمي نفسه نورا ، وليس له نور ، ولا صفة النور ثابتة له ، كما أن من المستحيل أن يكون عليما قديرا سميعا بصيرا ، ولا علم له ولا قدرة ، بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له ، وانتفاء حقائقها عنه مستلزم لنفيها عنه ، والثاني باطل قطعا فتعين الأول .

الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر : هل رأيت ربك ؟ قال " نور أنى [ ص: 420 ] أراه " رواه مسلم في صحيحه ، وفي الحديث قولان : أحدهما : أن معناه ثم نور ، أي فهناك نور منعني رؤيته ، ويدل على هذا المعنى شيئان ( أحدهما ) قوله في اللفظ الآخر في الحديث : " رأيت نورا " فهذا النور الذي رآه هو الذي حال بينه وبين رؤية الذات ، الثاني : قوله في حديث أبي موسى ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " رواه مسلم في صحيحه ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال : " احتجب الله عنه خلقه بأربع : بنار وظلمة ونور وظلمة " وقال : حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل : " هل رأيت ربك ؟ " فانتفض جبريل وقال : يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور ، لو دنوت من أدناها لاحترقت " .

المعنى الثاني في الحديث أنه سبحانه نور فلا يمكن رؤيته ; لأن نوره الذي لو كشف الحجاب عنه لاحترقت السماوات والأرض وما بينهما مانع من رؤيته ، فإن كان المراد هو المعنى الثاني فظاهر ، وإن كان الأول فلا ريب أنه إذا كان نور الحجاب مانعا من رؤية ذاته فنور ذاته سبحانه أعظم من نور الحجاب ، بل الحجاب إنما استنار بنوره ، فإن نور السماوات إذا كان من نور وجهه ، كما قال عبد الله بن مسعود ، فنور الحجاب الذي فوق السماوات أولى أن يكون من نوره ، وهل يعقل أن يكون النور حجاب من ليس له نور ؟ هذا أبين المحال ، وعلى هذا فلا تناقض بين قوله صلى الله عليه وسلم : " رأيت نورا " وبين قوله : " نور أنى أراه " فإن المنفي مكافحة الرؤية للذات المقدسة ، والمثبت رؤية ما ظهر من نور الذات ، يوضحه :

الوجه الثالث : وهو أن ابن عباس جمع بين الأمرين فقال : رأى محمد ربه عز [ ص: 421 ] وجل فقيل له : أليس الله تعالى يقول : ( لا تدركه الأبصار ) فقال : ويحك ، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره لم يقم له شيء ، فأخبر أن الأبصار لا تدرك نفس ذاته إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، فهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم " نور أنى أراه " ولقوله : رأيت نورا .

الوجه الرابع : أن الرب سبحانه أخبر أنه لما تجلى للجبل وظهر له أمر ما من نور ذاته المقدسة صار الجبل دكا ، فروى حميد عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل ) أشار أنس بطرف إصبعه على طرف خنصره ، وكذلك أشار ثابت فقال له حميد الطويل : ما تريد يا أبا محمد ؟ فرفع ثابت يده فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد ، يحدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول أنت : ما تريد بهذا ؟ ومعلوم أن الذي أصار الجبل إلى هذا الحال ظهور هذا القدر من نور الذات له بلا واسطة ، بل تجلى ربه له سبحانه .

الوجه الخامس : ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض " الحديث ، وهو يقتضي أن كونه نور السماوات والأرض مغاير لكونه رب السماوات والأرض ، ومعلوم أن إصلاحه السماوات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيهما هي ربوبيته ، فدل على أن معنى كونه نور السماوات والأرض أمر وراء ربوبيتها ، يوضحه :

الوجه السادس : وهو أن الحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض وهو : ربوبيتها وقيوميتها ونورهما ، فكونه سبحانه ربا لهما وقيوما لهما ونورا لهما أوصاف له ، فآثار ربوبيته وقيوميته ونوره قائمة بهما ، وصفة الربوبية ومقتضاها هو المخلوق المنفصل ، وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه ، والرحمة الموجودة في العالم ، والإحسان والخير ، والنعمة والعقوبة آثار تلك الصفات ، وهي منفصلة عنه ، وهكذا علمه القائم به هو صفته ، وأما علوم عباده فمن آثار علمه ، وقدرتهم من آثار قدرته ، فالتبس هذا الموضع على منكري نوره سبحانه ، ولبسوا من جرم الشمس والقمر والنار ، فلا بد من حمل قوله : ( نور السماوات والأرض ) [ ص: 422 ] على معنى أنه منور السماوات والأرض ، وهاد لأهل السماوات والأرض ، وحينئذ فنقول في : الوجه السابع : أسأتم الظن بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث فهمتم أن حقيقة مدلوله أنه سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان والجدران ، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره وجحده ، وجمعتم بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق ، وليس ما ذكرتم من النور هو نور الرب القائم به الذي هو صفته ، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه ، فإن هذه الأنوار المخلوقة إنما تكون في محل دون محل ، فالنور الفائض عن النار أو الشمس أو القمر إنما هو نور لبعض الأرض دون بعض ، فإنا نعلم أن نور الشمس الذي هو أعظم من نور القمر والكواكب والنار ، ليس هو نور جميع السماوات والأرض ومن فيهن ، فمن ادعى أن ظاهر القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أن نور الرب سبحانه هو هذا النور الفائض فقد كذب على الله ورسوله ، فلو كان لفظ النص : الله هو النور الذي تعاينونه وترونه في السماوات والأرض لكان لفهم هؤلاء وتحريفهم مستندا ما ، أما ولفظ النص : ( الله نور السماوات والأرض ) فمن أين يدل هذا بوجه ما أنه النور الفائض عن جرم الشمس والقمر والنار ، فإخراج نور الرب تعالى عن حقيقته وحمل لفظه على مجازه إنما استند إلى هذا الفهم الباطل الذي لم يدل عليه اللفظ بوجه .

الوجه الثامن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بقوله : " أنت نور السماوات والأرض " ولم يفهم منه أنه هو النور المنبسط على الحيطان والجدران ، ولا فهمه الصحابة عنه بل علموا أن لنور الرب تعالى شأنا آخر هو أعظم من أن يكون له مثال ، قال عبد الله بن مسعود : ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السماوات والأرض من نور وجهه ، فهل أراد ابن مسعود أن هذا النور الذي على الحيطان ووجه الأرض هو عين نور الوجه الكريم ، أو فهم هذا عنهم ذو فهم مستقيم ؟ ! فالقرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم متطابقة يوافق بعضها بعضا ، وتصرح بالفرق الذي بين النور الذي هو صفته ، والنور الذي هو خلق من خلقه ، كما تفرق بين الرحمة التي هي صفته ، والرحمة التي هي مخلوقة ، ولكن لما وجدت في رحمته سميت برحمته ، وكما أنه لا يماثل في صفة من صفات خلقه ، فكذلك نوره سبحانه ، فأي نور من الأنوار المخلوقة إذا ظهر للعالم وواجهه أحرقه ؟ وأي نور إذا ظهر منه للجبال الشامخة قدرا ما جعلها دكا ، وإذا كانت أنوار الحجب لو دنا جبرائيل من أدناها لاحترق ، فما الظن بنور الذات .

[ ص: 423 ] الوجه التاسع : أنه تعالى قال : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره ، وهو نوره الذي هو نوره ، فإنه سبحانه يأتي لفصل القضاء بين عباده وينصب كرسيه بالأرض ، فإذا جاء الله تعالى أشرقت الأرض وحق لها أن تشرق بنوره ، وعند المعطلة لا يأتي ولا يجيء ولا له نور تشرق به الأرض .

الوجه العاشر : ما رواه محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وقد أشرق عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة ، السلام عليكم ، فذلك قوله تعالى : ( سلام قولا من رب رحيم ) قال : ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم ، رواه الحاكم في صحيحه وابن ماجه في سننه ، فهذا نور مشاهد قد سطع لهم حتى حركهم واستفزهم إلى رفع رءوسهم إلى فوق .

الوجه الحادي عشر : أن النص قد ورد بتسمية الرب نورا ، وبأن له نورا مضافا إليه ، وبأنه نور السماوات والأرض ، وبأن حجابه نور ، هذه أربعة أنواع ، فالأول يقال عليه سبحانه بالإطلاق ، فإنه النور الهادي ، والثاني يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته وقدرته وعلمه ، وتارة يضاف إلى وجهه ، وتارة يضاف إلى ذاته ، فالأول إضافته كقوله : " أعوذ بنور وجهك " وقوله : " نور السماوات والأرض من نور وجهه " ، والثاني إضافته إلى ذاته كقوله ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) وقول ابن عباس : " ذلك نوره الذي إذا تجلى به " ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره " الحديث . الثالث وهو إضافة نوره إلى السماوات والأرض ، كقوله : ( الله نور السماوات والأرض ) والرابع كقوله : " حجابه النور " فهذا النور المضاف إليه يجيء على أحد الوجوه الأربعة ، والنور الذي احتجب به سمي نورا ونارا ، كما وقع التردد في لفظه في الحديث الصحيح ، حديث [ ص: 424 ] أبي موسى الأشعري وهو قوله : " حجابه النور أو النار " ، فإن هذه النار هي نور ، وهي التي كلم الله كليمه موسى فيها ، وهي نار صافية لها إشراق بلا إحراق .

فالأقسام ثلاثة : إشراق بلا إحراق كنور القمر ، وإحراق بلا إشراق وهي نار جهنم فإنها سوداء محرقة لا تضيء ، وإشراق بإحراق وهي هذه النار المضيئة وكذلك نور الشمس له الإشراق والإحراق ، فهذا في الأنوار المشهودة المخلوقة ، وحجاب الرب تبارك وتعالى نور وهو نار ، وهذه الأنواع كلها حقيقة بحسب مراتبها ، فنور وجهه حقيقة لا مجاز ، وإذا كان نور مخلوقاته كالشمس والقمر والنار حقيقة فكيف يكون نوره الذي نسبة الأنوار المخلوقة إليه أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس ، فكيف لا يكون هذا النور حقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية