مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
والذي عندي أن الرحمة لما كانت من صفات الله تعالى ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا كانت قريبة من المحسنين ، فهو قريب سبحانه منهم قطعا ، وقد بينا أنه سبحانه قريب من أهل الإحسان ، ومن أهل سؤاله بإجابته .

ويوضح ذلك أن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه ، فيقرب ربه منه إليه ، بإحسانه تقرب تعالى إليه ، فإنه من تقرب منه شبرا يتقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ، فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير ، وهو مع ذلك فوق سماواته على عرشه ، كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق عرشه ، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته ، فلا يكون قط إلا عاليا ولا يكون فوقه شيء ألبتة ، كما قال أعلم الخلق " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " وهو سبحانه قريب في علوه عال في قربه ، كما في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه سميع [ ص: 483 ] قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " فأخبر صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ، وأخبر أنه فوق سماواته على عرشه مطلع على خلقه يرى أعمالهم ويعلم ما في بطونهم ، وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر .

والذي يسهل عليك فهم هذا : معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد ، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن ، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته . أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش .

وبهذا يزول الإشكال عن الحديث الذي رواه الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة قال : " بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان ، هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ، ثم قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف ، ثم قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها خمسمائة سنة ، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض ، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك العرش ، بينه وبين السماء السابعة بعد ما بين السماءين ، ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنها الأرض ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله ثم قرأ ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) " قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة ، وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث وقالوا : إنما يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش كما وصف في كتابه ، هذا آخر كلامه .

[ ص: 484 ] وقد اختلف الناس في هذا الحديث في سنده ومعناه ، فطائفة قبلته لأن إسناده ثابت إلى الحسن .

قال الترمذي : حدثنا ابن حميد وغير واحد ، قالوا حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة حدثنا الحسن عن أبي هريرة ، فهؤلاء كلهم أئمة ، وقد صرح قتادة بتحديث الحسن له ، وقد صح عن الحسن في غير هذا الحديث أنه قال : حدثنا أبو هريرة ولا ريب أنه عاصره ، وقد قال مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم قال سمعت الحسن قال : سمعت أبا هريرة ، وطائفة أخرى ردت الحديث وأعلته بأنه منقطع ، قالوا والحسن لم ير أبا هريرة فضلا أن يسمع منه ، قال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : الحسن لقي ابن عباس ؟ قال لا ولم يلق أبا هريرة .

وقال ابن أبي حاتم حدثنا صالح بن أحمد ، حدثنا علي بن المديني قال سمعت سلم ابن قتيبة قال حدثني شعبة ، قال قلت ليونس بن عبيد : الحسن سمع من أبي هريرة ؟ قال : ما رآه قط ، حدثنا صالح بن أحمد قال : قال أبي : قال بعضهم عن الحسن يحدثنا أبو هريرة ، قال ابن أبي حاتم إنكارا عليه إنه لم يسمع من أبي هريرة .

حدثنا محمد بن أحمد البر قال : قال علي : لم يسمع الحسن من أبي هريرة ، ثم ذكره عن أيوب وعلي بن زيد : لم يسمع الحسن من أبي هريرة ، وقال عبد الرحمن بن مهدي سمع من ابن عمر ولم يسمع من أبي هريرة ولم يره .

وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول : لم يسمع من أبي هريرة ، وسمعت أبا زرعة يقول : لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولم يره ، فقيل له : فمن قال حدثنا أبو هريرة ؟ قال يخطئ ، وسمعت أبي يقول : وذكر حدثنا أبو هريرة وأوصاني خليلي ، قال لم يعمل ربيعة بن كلثوم شيئا ، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئا ، قلت لأبي إن سالم الخياط روى عن الحسن قال سمعت أبا هريرة . قال هذا مما بين ضعف سالم .

وسمعت أبا الحجاج المزي يقول : قوله حدثنا أبو هريرة ، أي حدث أهل بلدنا ، كما في حديث الدجال قول الشاب الذي يقتله له : أنت الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه ، قال أبو حاتم : والحسن لم يسمع من ابن عباس ، وقوله خطبنا ابن عباس ، يعني خطب أهل البصرة ، قالوا وللحديث علة أخرى وهي أن عبد الرزاق في تفسيره رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، فاختلفوا هو وشيبان فيه ، هل حدث به عن الحسن .

[ ص: 485 ] والذين قبلوا اختلفوا في معناه ، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه ، أي انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت ، فلا يعزب عنه شيء .

وقالت طائفة أخرى : بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن ، فإنه سبحانه محيط بالعالم كله ، وأن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى : ( والله من ورائهم محيط ) فإذا كان محيطا بالعالم فهو فوقه بالذات عال عليه من كل وجه وبكل معنى ، فالإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة ، فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه ، والحديث لم يقل فيه إنه يهبط على جميع ذاته ، فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل ، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض ألبتة ، لا الحلولية ولا الاتحادية ولا الفرعونية ولا القائلون بأنه في كل مكان بذاته ، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم .

فقوله " ولو دليتم بحبل لهبط على الله " إذا هبط في قبضته المحيطة بالعالم هبط عليه والعالم في قبضته وهو فوق عرشه ، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة قبضتها يده من جميع جوانبها ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده وهبطت عليه ، ولم يلزم أن تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها ، ولله المثل الأعلى وإنما يؤتى الرجل من سوء فهمه أو من سوء قصده من كليهما ، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال .

وأما تأويل الترمذي وغيره بالعلم فقال شيخنا : هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية بل بتقدير ثبوته ، فإنما يدل على الإحاطة ، والإحاطة ثابتة عقلا ونقلا وفطرة كما تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ، ولا عن يمينه ، فإن عن يمينه ملكا ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله " .

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى ، فقال له أبو رزين كيف يسعنا وهو شخص واحد ونحن جميع فقال " سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، فالله أكبر من ذلك " [ ص: 486 ] ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وقدر مخاطبته له فإنه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه ، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده له ، وكذلك إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا عن يمينه ولا عن يساره ، ويدعوه من العلو لا من السفل .

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم " واتفق العلماء على أن رفع البصر إلى السماء للمصلي منهي عنه ، وروى أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .

فهذا مما جاءت له الشريعة تكميلا للفطرة ، لأن الداعي السائل الذي أمر بالخشوع وهو الذل والسكون لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله ، بل يناسبه الإطراق وخفض بصره أمامه ، فليس في هذا النهي ما ينفي كونه فوق سماواته على عرشه كما زعم بعض جهال الجهمية ، فإنه لا فرق عندهم بين تحت التحت والعرش بالنسبة إليه ، ولو كان كذلك لم ينه عن رفع بصره إلى جهة ، ويؤمر برده إلى غيرها ، لأن الجهتين عند الجهمية سواء بالنسبة إليه .

وأيضا فلو كان الأمر كذلك لكان النهي ثابتا في الصلاة وغيرها وقد قال تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فليس العبد منهيا عن رفع بصره إلى السماء مطلقا ، ، إنما نهي عنه في الوقت الذي أمر فيه بالخشوع ; لأن خفض البصر من تمام الخشوع كما قال تعالى : ( خشعا أبصارهم ) وأيضا فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء لكون الرب ليس في السماء لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات ، ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو ، لبين لهم ذلك بيانا شافيا ، ولم يحملهم فيه على أدب من آداب المصلي ، وهو إطراقه بين يدي ربه [ ص: 487 ] وخشوعه ورمي بصره إلى الأرض كما يفعل بين يدي الملوك ، فهذا إنما يدل على نقيض قولهم .

فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز التوجه إلى الله تعالى إلا من جهة العلو ، وإن ذلك لا ينافي إحاطته ، وكونه في قبضته ، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء ، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر ، وإن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم ولا علوه على مخلوقاته ، بل هو فوق خلقه محيط بهم مباين لهم . إنما تنشأ الشبهة الفاسدة عن اعتقادين فاسدين :

أحدهما : أن يظن أنه إذا كان العرش كريا والله فوقه ، لزم أن يكون كريا .

الاعتقاد الثاني : أنه إذا كان كريا صح التوجه إليه من جميع الجهات ، وهذان الاعتقادان خطأ وضلال فإن الله سبحانه مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها كما لا يجور أن يظن به أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها ، فقد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء ، وأن السماوات والأرض في يده كخردلة في كف أحدنا ، وهذا يزيل كل إشكال ويبطل كل خيال .

التالي السابق


الخدمات العلمية