مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المثال العاشر : مما يظن أنه مجاز وليس بمجاز لفظ ( النداء الإلهي ) وقد تكرر في الكتاب والسنة تكرارا مطردا في محاله متنوعا يمنع حمله على المجاز ، فأخبر تعالى أنه نادى الأبوين في الجنة ونادى كليمه ، وأنه ينادي عباده يوم القيامة ، وقد ذكر سبحانه النداء في تسعة مواضع في القرآن أخبر فيها عن ندائه بنفسه ، ولا حاجة إلى أن يقيد النداء بالصوت ، فإنه بمعناه وحقيقته باتفاق أهل اللغة ، فإذا انتفى الصوت انتفى النداء قطعا ، ولهذا جاء إيضاحه في الحديث الصحيح الذي بلغناه الصحابة والتابعون وتابعوهم وسائر الأمة تلقته بالقبول وتقييده بالصوت إيضاحا وتأكيدا كما قيد التكليم بالمصدر في قوله تعالى : ( وكلم الله موسى تكليما ) .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " يا آدم ، فيقول لبيك وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار " [ ص: 488 ] وقال البخاري : حدثنا الحميدي وعلي بن المديني قالا : حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير " الحديث رواه النسائي في التفسير وابن ماجه وأبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .

وروى أبو داود من حديث علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبيد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيضعون ، ولا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل ، فإذا جاءهم جبرائيل فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل : ماذا قال ربكم ؟ قال الحق ، فينادون الحق الحق " وهذا الإسناد كلهم أئمة ثقات .

وقد فسر الصحابة هذه الآية بما يوافق هذا الحديث الصحيح ، فقال أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن كامل بن خلف حدثنا محمد بن كامل بن خلف حدثنا محمد بن سعد حدثنا أبي حدثنا عمي حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) قال لما أوحى الجبار جل جلاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي ، فلما كشف عن قلوبهم فسألوه عما قال الله تعالى قالوا : الحق ، علموا أن الله تعالى لا يقول إلا حقا ، وأنه منجز ما وعد ، قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم قالوا ماذا قال ربكم ، قالوا الحق هو العلي الكبير .

[ ص: 489 ] وهذا إسناد معروف يروي به ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهم التفسير وغيره عن ابن عباس ، وهو إسناد متداول بين أهل العلم وهم ثقات .

وقال عبد الله بن المبارك ، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما نزل جبرائيل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع أهل السماوات لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا فكلما مروا بأهل سماء فزع عن قلوبهم ، فيقولون يا جبرائيل بم أمرت ؟ فيقول كلام الله بلسان عربي .

وقد روينا في مسند أبي يعلى الموصلي ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا همام حدثنا القاسم بن عبد الواحد ، قال حدثني عبد الله بن عقيل بن أبي طالب أن جابر بن عبـد الله حدثه ، قال بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه " قال فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى أتيت الشام ، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري ، فأرسلت إليه أن جابرا على الباب ، قال فرجع إلى الرسول ، فقال : جابر بن عبد الله ؟ فقلت : نعم ، قال فرجع الرسول فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديثا بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه ، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله العباد أو قال يحشر الله الناس قال وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما ، قلت ما بهما ؟ قال ليس معهم شيء ، قال : فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال : قلنا كيف هذا وإنما نأتي الله غرلا بهما ؟ قال بالحسنات والسيئات " هذا حديث حسن جليل ، وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق حسن الحديث ، وقد احتج به غير واحد من الأئمة ، وتكلم فيه من قبل حفظه ، وهذا الضرب ينتفي من [ ص: 490 ] حديثهم ما خالفوا فيه الثقات ، ورووا ما يخالف روايات الحفاظ وشذوا عنهم ، وأما إذا روى أحدهم ما شواهده أكثر من أن تحصر مثل هذا الحديث ، فلا ريب في قبول حديثه ، أما القاسم بن عبد الواحد بن أيمن المكي فحسن الحديث أيضا ، وقد احتج به النسائي مع تشدده في الرجال وأن له فيهم شرطا أشد من شرط مسلم ، وحسن الترمذي حديثه وذكره ابن حبان في كتاب الثقات .

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن همام بن يحيى بإسناده بطوله محتجا به على من رده ، وروى البخاري أوله في الصحيح مستشهدا به تعليقا ، ورواه في كتاب الأدب بطوله من حديث همام بن يحيى وقال في حديث واحد ، ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه في الأحاديث المختارة ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هي أصح من صحيح الحاكم ، وقال الصريفيني : شرطه فيها خير من شرط الحاكم ورواه عبد الله بن أحمد في السنة والطبراني في المعجم والسنة وأبو بكر بن أبي عاصم في السنة محتجين به ، فمن الناس سوى هؤلاء الأعلام سادات الإسلام ولا التفات إلى ما أعله به بعض الجهمية ظلما منه وهضما للحق ، حيث ذكر كلام المضعفين لعبد الله بن عقيل والقاسم بن محمد دون من وثقهما وأثنى عليهما ، فيوهم الغر أنهما مجمع على ضعفهما لا يحتج بحديثهما ، ثم أعله بأن البخاري لم يجزم به ، وإنما علقه تعليقا فقال : ويذكر عن جابر بن عبد الله ، وليس هذا تعليلا من البخاري له فقد جزم به في أول الكتاب حيث قال : ورحل جابر بن عبد الله في طلب حديث واحد شهرا ، ورواه كما ذكرنا في الأدب بإسناده وأعله بأن البخاري ومسلما يحتجا بابن عقيل ، وهذه علة باردة باطلة ، كل أهل الحديث على بطلانها ، وأعله باضطراب ألفاظه ، ففي بعضها يقول : " فقدمت الشام " ، وفي بعضها " فينادي " بكسر الدال ، وفي بعضها " فينادى " بفتحها ، وفي بعضها " حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه " ، وفي بعضها " فما أحد يحفظه غيرك ، فأحببت أن تذاكرنيه " ، قال : وهذا يشعر أنه سمعه أيضا وأحب مذاكرة عبد الله بن أنيس له به ، قال : وفي بعضها رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها يسميه بعبد الله بن أنيس .

ومن تأمل هذه العلل الباردة علم أنها من باب التعنت ، فهب أن هذا الحديث معلول أفيلزم من ذلك بطلان سائر الآثار الموقوفة والأحاديث المرفوعة ، ونصوص القرآن وكلام أئمة الإسلام كما ستراه إن شاء الله تعالى ، وقد رواه الحافظ أبو عبد الله [ ص: 492 ] محمد بن عبد الواحد المقدسي من حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال : بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من القصاص فذكر القصة إلى أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " فإن الله يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ، ثم ينادى بصوت رفيع غير فظيع يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فيقول : أنا الديان لا تظالم اليوم ، أما وعزتي لا يجاورني اليوم ظلم ظالم ، ولو لطمة كف بكف أو يد على يد ، ألا وإن أشد ما أتخوف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط ، فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال " ورواه تمام في فوائده .

ويكفي رواية البخاري في صحيحه مستشهدا به ، واحتج به في خلق أفعال العباد ، ورواه أئمة الإسلام في كتب السنة وما زال السلف يروونه ، ولم يسمع عن أحد من أئمة السنة أنه أنكره حتى جاءت الجهمية فأنكروه ، ومضى على آثارهم من اتبعهم في ذلك .

وقال قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة : قلت لأبي يا أبت إنهم يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ، فقال بلى تكلم بصوت .

وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيا من الصوت ، ويكره أن يكون رفيع الصوت أو " أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " ، وليس هذا لغير الله عز وجل ، قال : وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ; لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، ثم ساق حديث جابر أنه سمع عبد الله بن أنيس يقوله : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان . . . " الحديث .

ثم احتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله يوم القيامة : يا آدم ، فيقول لبيك ربنا وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . . . " الحديث .

[ ص: 492 ] ثم احتج بحديث عبد الله بن مسعود " إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان " .

فهذان إماما أهل السنة على الإطلاق : أحمد بن حنبل والبخاري ، وكل أهل السنة والحديث على قولهما ، وقد صرح بذلك وحكاه إجماعا حرب بن إسماعيل صاحب أحمد وإسحاق ، وصرح به خشيش بن أصرم النسائي ، ومحمد بن حاتم المصيصي ، وعبد الله بن الإمام أحمد وأبو داود السجستاني وابنه أبو بكر .

وقد احتج الإمام أحمد بحديث ابن مسعود وغيره ، وأخبر أن المنكرين لذلك هم الجهمية ، فقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون : " لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت " ، فقال أبي : تكلم الله بصوت ، وروى إمام الأمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من حديث الشعبي قال : أرواه عن جابر حديثا طويلا وفيه " فبينا هم على ذلك إذ أتاهم نداء من قبل الرحمن عز وجل : عبادي ما كنتم تعبدون في الدنيا ؟ فيقول : أنت أعلم إياك نعبد ، فيأتيهم صوت لم يسمع الخلائق بمثله : عبادي صدقتم فقد رضيت عنكم ، فتقول الملائكة عند ذلك بالشفاعة ، فيقول المشركون : ما لنا من شافعين " . وروى ابن خزيمة من حديث محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ثم يهتف بصوته : من كان لي شريكا فليأت ، لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول : لله الواحد القهار ، ثم يزجر الخلائق زجرة أخرى فإذا هم بالساهرة . . . " الحديث ، وقطعة من حديث الصور الطويل ، ولم يزل الأئمة يروونه ويحتجون به حتى حدثت الجهمية .

وروى ابن خزيمة من حديث نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر ، عن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر فتكلم بالوحي . . . " الحديث ، قال ابن خزيمة : ابن أبي زكريا هو عبد الله .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال سكن عن قلوبهم ، نادى أهل السماء أهل [ ص: 493 ] السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق ، قال كذا وكذا ، رواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن أبيه وفي تفسير شيبان عن قتادة في تفسير قوله : ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ) قال صوت رب العالمين ، وذكره ابن خزيمة ، وروى عبد الله بن أحمد عن نوف قال : نودي موسى من شاطئ الوادي ، قال : من أنت الذي تناديني ؟ قال : أنا ربك الأعلى ، وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه حدثنا عبد الصمد قال : سمعت وهب بن منبه قال : لما رأى موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فذكر الحديث إلى أن قال : فنودي من الشجرة ، فقيل له يا موسى فأجاب سريعا ولا يدري من دعاه ، وما كان سرعة جوابه إلا استئناسا بالإنس ، فقال لبيك مرارا ، إني أسمع صوتك وأحس وجسك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع موسى هذا علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تبارك وتعالى فأيقن به ، فقال كذلك أنت إلهي أسمع أم بكلام رسولك ؟ فقال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني ، الحديث قد رواه عبد الرحمن بن حميد في تفسيره ويعقوب بن سفيان الفسوي .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أحب الله عبدا نادى جبرائيل إن الله قد أحب فلانا فأحبه . . . " الحديث ، والذي تعقله الأمم من النداء إنما هو الصوت المسموع كما قال الله تعالى : ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب ) وقال : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ) وهذا النداء هو رفع أصواتهم الذي نهى الله عنه المؤمنين وأثنى عليهم بغضها بقوله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية .

وكل ما في القرآن العظيم من ذكر كلامه وتكليمه وأمره ونهيه دال على أنه تكلم [ ص: 494 ] حقيقة لا مجازا ، وكذلك نصوص الوحي الخاص كقوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) .

قال الجارودي : سمعت الشافعي يقول : أنا مخالف ابن علية في كل شيء حتى في قوله لا إله إلا الله ، أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب ، وهو يقول : لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى .

وقد نوع الله تعالى هذه الصفة في إطلاقها عليه تنويعا يستحيل معه نفي حقائقها ، بل ليس في الصفات الإلهية أظهر من صفة الكلام والعلو والفعل والقدرة ، بل حقيقة الإرسال تبليغ كلام الرب تبارك وتعالى ، وإذا انتفت عنه حقيقة الكلام انتفت حقيقة الرسالة والنبوة ، والرب تبارك وتعالى يخلق بقوله وكلامه كما قال تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فإذا انتفت حقيقة الكلام عنه انتفى الخلق ، وقد عاب الله آلهة المشركين بأنها لا تكلم ولا تكلم عابديها ولا ترجع إليهم قولا ،والجهمية وصفوا الرب تبارك وتعالى بصفة هذه الآلهة ، وقد ضرب الله تعالى لكلامه واستمراره ودوامه المثل بالبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار الأرض كلها أقلام ، فيفنى المداد والأقلام ولا تنفد كلماته ، أفهذا صفة من لا يتكلم ولا يقوم به كلام ؟ فإذا كان كلامه وتكليمه ، وخطابه ونداؤه ، وقوله وأمره ، ونهيه ووصيته ، وعهده وإذنه ، وحكمه وأنباؤه ، وأخباره وشهادته كل ذلك مجاز لا حقيقة له بطلت الحقائق كلها ، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه ( ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ) فما حقت الحقائق إلا بقوله وفعله .

التالي السابق


الخدمات العلمية