مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المذهب الثالث : مذهب الجهمية لصفات الرب تعالى أن كلامه مخلوق ومن بعض مخلوقاته ، فلم يقم بذاته سبحانه ، فاتفقوا على هذا الأصل واختلفوا في فروعه ، قال الأشعري في كتاب المقالات : اختلفت المعتزلة في كلام الله ، هل هو جسم أو ليس بجسم ، وفي خلقه على ستة أقاويل :

فالفرقة الأولى : منهم يزعمون أن كلام الله جسم ، وأنه مخلوق ، وأنه لا شيء إلا جسم .

والفرقة الثانية : زعموا أن كلام الخلق عرض وهو حركة ; لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة وأن كلام الخالق جسم ، وأن ذلك الجسم صوت متقطع مؤلف مسموع ، وهو فعل الله وخلقه ، وهذا قول أبي الهذيل وأصحابه ، وأحال النظام أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو مكانين في وقت واحد ، وزعم أنه في المكان الذي خلق فيه .

والفرقة الثالثة : من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق لله وأنه عرض وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد إذا تلاه قال فهو يوجد مع تلاوته ، وإذا كتبه وجد مع كتابته ، وإذا حفظه وجد مع حفظه ، وهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ والكتابة ولا يجوز عليه الانتقال والزوال .

والفرقة الرابعة : يزعمون أن كلام الله عز وجل عرض وأنه مخلوق وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد ، وزعموا أن المكان الذي خلقه الله تعالى فيه محال انتقاله وزواله منه ووجوده في غيره ، وهذا قول جعفر بن حرب وأكثر البغداديين .

والفرقة الخامسة : أصحاب معمر يزعمون أن القرآن عرض ، والأعراض عندهم قسمان : قسم منهما يفعله الأحياء وقسم منهما يفعله الأموات ، ومحال أن يكون ما يفعله الأموات فعلا للأحياء ، والقرآن مفعول وهو عرض ، ومحال أن يكون الله فعله في [ ص: 497 ] الحقيقة ، لأنهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله ، وزعموا أن القرآن فعل للمحل الذي يسمع منه ، إذ سمع من الشجرة ، فهو فعل لها حيث سمع ، فهو فعل المحل الذي حل فيه .

والفرقة السادسة : يزعمون أن كلام الله عرض مخلوق ، وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد ، وهذا قول الإسكافي .

واختلفت المعتزلة في كلام الله هل يبقى ؟ فقالت فرقة منهم : يبقى بعد خلقه ، وقالت فرقة أخرى : لا يبقى إنما يوجد في الوقت الذي خلقه الله ثم يعدم بعد ذلك ، وهذا المذهب هو من فروع الأصل الباطل المخالف لجميع كتب الله ورسله ، ولصريح المعقول والفطر ، من جحد صفات الرب وتعطيل حقائق أسمائه ونفي قيام الأفعال به ، فلما أصلوا أنه لا يقوم به وصف ولا فعل كان من فروع هذا الأصل أنه لم يتكلم بالقرآن ولا بغيره ، وأن القرآن مخلوق ، وطرد ذلك إنكار ربوبيته وإلهيته ، فإن ربوبيته سبحانه إنما تتحقق بكونه فعالا مدبرا متصرفا في خلقه ، يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر ، فإذا انتفت أفعاله وصفاته انتفت ربوبيته ، إذا انتفت عنه صفة الكلام انتفى الأمر والنهي ولوازمها وذلك ينفي حقيقة الإلهية ، فطرد ما أصلوه أن الله سبحانه ليس برب العالم ولا إله ، فضلا عن أن يكون لا رب غيره ولا إله سواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية