مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قوله أتباع الرسل الذين تلقوا هذا الباب عنهم أثبتوا لله صفة الكلام كما أثبتوا له سائر الصفات ، ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله بعض المكابرين أنه خلق الكلام لا في محل ، ومحال قيامها بغير الموصوف بها كما يقوله المكابر الآخر أنه خلق في محل فكان هو المتكلم به دون المحل ، قالوا والكلام الحقيقي هو الذي يوجد بقدرة المتكلم وإرادته قائما به ، لا يعقل غير هذا ، وأما ما كان موجودا بدون قدرته ومشيئته وإن سمع منه فإنه ليس بكلام له ، وإنما هو مخلوق خلقه الله فيه ، فلو كان ما قام بالرب تعالى من الكلام غير متعلق بمشيئته بل يتكلم بغير اختياره لم يكن هذا هو الكلام المعهود ، بل هذا شيء آخر غير ما يعرفه العقل ويشهد به الشرع ، قالوا : ولو لم يكن هناك ألفاظ مسموعة حقيقة السمع لم يكن ثم صفة كلام البتة ، ولو كان عاجزا عن الكلام في الأزل لم يصر قادرا عليه فيما لم يزل ، فإنه إذا كانت حاله قبل وبعد سواء وهو لم يستفد صفة الكلام من غيره ، فمن المستحيل أن تجدد له هذه الصفة بعد أن كان فاقدا لها بالكلية .

وكذلك إثبات قدم عين كل فرد من أنواع الكلام وبقائه أزلا وأبدا واقتران حروفه بعضها ببعض بحيث لا يسبق شيء منها لغيره ، لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة وقد دلت النصوص النبوية أنه متكلم إذا شاء بما شاء ، وأن كلامه يسمع ، وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات عين كلامه حقا ، لا تأليف ملك ولا [ ص: 500 ] بشر ، وأنه سبحانه الذي قاله بنفسه : ( المص ) ، ( حم عسق ) ، ( كهيعص ) وأن القرآن جميعه ، حروفه ومعانيه نفس كلامه الذي تكلم به ، وليس بمخلوق ولا بعضه قديما ، وهو المعنى وبعضه مخلوق ، وهو الكلمات والحروف ، ولا بعضه كلامه وبعضه كلام غيره ، ولا ألفاظ القرآن وحروفه ترجمة ترجم بها جبرائيل أو محمد عليهما السلام عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم الله بها ، بل القرآن جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، تكلم الله به حقيقة ، والقرآن اسم لهذا النظم العربي الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عن رب العالمين .

فللرسولين منه مجرد التبليغ والأداء ، لا الوضع والإنشاء ، كما يقول أهل الزيغ والاعتداء ، فكتاب الله عندهم غير كلامه ، كتابه مخلوق وكلامه غير مخلوق ، والقرآن إن أريد به الكتاب كان مخلوقا ، وإن أريد به الكلام كان غير مخلوق ، وعندهم أن الذي قال السلف هو غير مخلوق هو عين القائم بالنفس وأما ما جاء به الرسول وتلاه على الأمة فمخلوق ، وهو عبارة عن ذلك المعنى ، وعندهم أن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس من غير أن يسمع منه كلمة واحدة ، وما يقرؤه القارئون ويتلوه التالون فهو عبارة عن ذلك المعنى ، وفرعوا على هذا الأصل فروعا : منها : أن كلام الله لا يتكلم به غيره ، فإنه عين القائم بنفسه ، ومحال قيامه بغيره فلم يتل أحد قط كلام الله ولا قرأه .

ومنها : أن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كلام الله إلا على سبيل المجاز .

ومنها : أنه لا يقال إن الله تكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا خاطب ولا يخاطب ، فإن هذه كلها أفعال إرادية تكون بالمشيئة ، وذلك المعنى صفة أزلية لا يتعلق بالمشيئة .

ومنها : أنهم قالوا لا يجوز أن ينزل القرآن إلى الأرض ، فألفاظ النزول والتنزيل لا حقيقة لشيء منها عندهم .

ومنها : أن القرآن القديم لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا عشر ولا جزء له البتة .

ومنها : أن معنى الأمر هو معنى النهي ، ومعنى الخبر والاستخبار ، وكل ذلك معنى واحد بالعين .

[ ص: 501 ] ومنها : أن نفس التوراة هي نفس القرآن ونفس الإنجيل والزبور ، والاختلاف في التأويلات فقط .

ومنها : أن هذا القرآن العربي تأليف جبرائيل أو محمد أو مخلوق خلقه الله تعالى في اللوح المحفوظ ، فنزل به جبرائيل من اللوح لا من الله على الحقيقة كما هو معروف من أقوالهم .

ومنها : أن ذلك العين القديم يجور أن تتعلق به الإدراكات الخمس فيسمع ويرى ويشم ويذاق ويلمس إلى غير ذلك من الفروع الباطلة سمعا وعقلا وفطرة .

وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته ، وهي صفة ذات وفعل قال الله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، وقوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فإذا : تخلص الفعل للاستقبال ( وأن ) كذلك ( ونقول ) فعل دال على الحال والاستقبال ( وكن ) حرفان يسبق أحدهما الآخر ، فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر .

وكذلك قوله : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) الآية ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن ، وكذلك قوله : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) وإنما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره .

وكذلك قوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ) الآيات كلها ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت .

وكذلك قوله : ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن ) والذي ناداه هو الذي قال له : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) وكذلك قوله : ( ويوم يناديهم فيقول ) [ ص: 502 ] وقوله : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) وقوله : ( يوم نقول لجهنم ) الآية ، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد قبل خلقها ووجودها .

وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ونصوص السنة ، ولا سيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج وغيرها ، كقوله : " أتدرون ماذا قال ربكم الليلة " ، وقوله : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة " ، وقوله : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب " .

وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، ويكلمهم يوم القيامة ، ويكلم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ويكلم أهل الجنة في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا " ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه وقال له : تمن علي .

إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دفعت دفعت الرسالة بأجمعها ، وإن كانت مجازا كان الوحي كله مجازا ، وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه ، وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره ، فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر ، وأوضح من كل واضح ، فكم جهد ما يبلغ التأويل والتحريف والحمل على المجاز .

[ ص: 503 ] هب أن ذلك يمكن في موضع واثنين وثلاثة وعشرة ، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر ؟ ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاث آلاف ، فكل آية وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول ، وكل أثر فيه ذلك ، إذا استقرئت زادت على هذا العدد ، ويكفي أحاديث الشفاعة وأحاديث الرؤية وأحاديث الحساب ، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة ، وأحاديث تكليم الله لموسى ، وأحاديث تكلمه عند النزول الإلهي ، وأحاديث تكلمه بالوحي ، وأحاديث تكليمه للشهداء ، وأحاديث تكليم كافة عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة ، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة ، إلى غير ذلك ، إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجاز لا حقيقة له ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد ، وأن البحر لو أمده من بعده سبعة أبحر ، وكانت أشجار الأرض أقلاما يكتب بها ما تتكلم به ، لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك ، وأنك لك الخلق والأمر ، فأنت الخالق حقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية