مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

في بيان أن التأويل شر من التعطيل

فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها ، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المئول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال ، فجمعوا بين أربعة محاذير : اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله محال باطل ، ففهموا التشبيه أولا ، ثم انتقلوا منه إلى المحذور الثاني ، وهو التعطيل ، فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بهم ولا يليق بالرب سبحانه . المحذور الثالث : نسبة المتكلم الكامل العلم ، الكامل البيان التام النصح ، إلى ضد البيان والهدى والإرشاد ، وأن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب ، وعبروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص ، ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح للناس . المحذور الرابع : تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها . . فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت بها المثلات ، وتلاعب بها أمواج التأويلات ، ونادى عليها أهل التأويل في سوق : من يزيد ، [ ص: 50 ] فبذل كل واحد في ثمنها من التأويل ما يريد ، فلو رأيتها وقد عزلت عن سلطنة اليقين ، وجعلت تحت تحكم تأويل الجاهلين ، هذا وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا : لا طريق لك علينا ، وإن كان ولا بد فعلى سبيل المجاز ، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين ، وأنت أدلة لفظية ، وظواهر سمعية ، لا تفيد العلم ولا اليقين ، فسندك آحاد وهو عرضة للطعن في الناقلين ، وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منها موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين .

فلا إله إلا الله والله أكبر ! ! كم هدمت هذه المعاول من معاقل الإيمان ، وتثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن ، فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم من أفضل الجهاد في سبيل الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : " إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله " .

واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله ، وأن الهدى هدى ، وأن الحق دائر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجودا وعدما ، وأنه لا مطاع سواه ولا متبوع غيره ، وأن كلام غيره يعرض على كلامه فإن وافقه قبلناه ، لا لأنه قاله بل لأنه أخبر به عن الله تعالى ورسوله ، وإن خالفه رددناه ، ولا يعرض كلامه صلى الله عليه وسلم على آراء القياسيين ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين ولا أذواق المتزهدين ، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به ، عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين ، فما حكم بصحته فهو منه المقبول ، وما حكم برده فهو المردود .

التالي السابق


الخدمات العلمية