مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السادس : أنه إذا قيل له : لا تصدقه في هذا كان آمرا له بما يناقض ما علم به صدقه ، فكان آمرا بما يوجب أن لا يثق بشيء من غيره ، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره ، ولهذا أفضى الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى وأفعاله ، بل ولا باليوم الآخر عند بعضهم ، لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع : نوع يجب رده وتكذيبه ، ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ، ونوع يقر ، وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه ، بل يقول : ما أثبته عقلك فأثبته وما نفاه عقلك فانفه ، وهذا يقول : ما أثبته كشفك فأثبته وما لا فلا ، ووجود الرسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية ، بل على قولهم وأصولهم وجوده [ ص: 112 ] أضر من عدمه ، لأنهم لا يستفيدون من جهته علما بهذا الشأن ، واحتاجوا إلى دفع ما جاء به ، إما بتكذيب ، وإما بتأويل ، وإما بإعراض وتفويض .

فإذا قيل : لا يمكن أنه يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وممتنع عليه ذلك ، قيل : فهذا إقرار باستحالة معارضة العقل للسمع واستحالة المسألة ، وعلم أن جميع أخباره لا تناقض العقل .


قعد النقل سالما من مناف واسترحنا من الصداع جميعا

فإن قيل : بل المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهمه ظاهر اللفظ ، وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يظن أنه دليل وليس بدليل ، أو يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدمات إسناده أو امتناعا ؟

قيل : وهذا رفع صورة المسألة ويحيلها بالكلية ، ويصير صورتها هكذا : إذا تعارض الدليل القولي وما ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقل ، وهو كلام لا فائدة فيه ولا حاصل له ، وكل عاقل يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل .

ثم يقال : إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر ، بل اعتقاد دلالته جهل ، أو بما يظن أنه دليل وليس دليلا ، فإن كان السمع في نفس الأمر كذلك لكونه خبرا مكذوبا أو صحيحا ، ولكن ليس فيه ما يدل على معارضته العقل بوجه ، وأبيتم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه ، وكلنا أسعد بذلك منكم ، فأنا أشد منكم نفيا للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد إبطالا لما تحمله من المعاني الباطلة ، وإن كان الدليل السمعي صحيحا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد ، لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خياليات فاسدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية