مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الثامن والعشرون : وهو أنك إذا جعلت العقل ميزانا ، ووضعت في إحدى كفتيه كثيرا من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ، ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجدت ترجيحه لهذه الكفة فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى ، ولولا الحس والمشاهدة يمنعه من إنكار ذلك لأنكره ، هذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة وقلة التحصيل ، ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان .

فنقول وبالله التوفيق : أنسب إلى العقل ، حيوان يرى ويحس ويتكلم ويعمل ، فغشيه أمر ألفاه كأنه خشبة لا روح فيها ، وزال إحساسه وإدراكه ، وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله ، بحيث لا يعلم شيئا ، فأدرك في هذه الحالة من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه ، واجتماع حواسه ووفور عقله ، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به .

وأنسب إليه أيضا حيوان خرج من إحليله مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة ، فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت برهة من الدهر ، فانقلبت دما قد تغير لونها وشكلها وصفاتها ، فأقامت كذلك مدة ، ثم انقلبت بعد ذلك قطعة لحم ، فأقامت كذلك مدة ، ثم انقلبت عظاما وأعصابا وعروقا وأظفارا مختلفة الأشكال والأوضاع ، وهي جماد لا إحساس بها ، ثم عادت حيوانا يتحرك ويتغذى ويتقلب ، ثم [ ص: 147 ] أقام ذلك الحيوان في مكان لا يجد فيه منفسا وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض ، ثم انفتح له باب يضيق عنه مسلك الذكر لا يسلكه إلا بضغطه ، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه .

وأنسب إليه أيضا : بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها ، وهو النار .

وأنسب إليه شيئا بقدر بذر الخشخاش يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيوانا يتغذى بورق الشجر برهة ، ثم إنه يبني على نفسه قبابا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكما متفقا ، فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة ، فينقلب في القبة طائرا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودا يمشي على بطنه فيفتح عن نفسه باب القبة ، وذلك دود القز .

إلى أضعاف أضعاف ما ذكرناه ، مما يشاهد بالعيان ، مما لو حكي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له وقال : وهل يصدق بهذا عاقل ، وضرورة العقل تدفع هذا ، وأقام الأدلة العقلية على استحالته فقال في النائم مثلا : القوى الحساسة سبب الإدراك للأمور الوجودية وآلة لها ، فمن لم يدرك الأشياء مع وجودها واستجماعها ووفورها ، فلأن يتعذر عليه عدم إدراكها مع عدمها وبطلان أفعالها أولى وأحرى ، وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء ، والحس والعيان يدفعه ، ومن له خبرة بمواد الأدلة وترتيب مقدماتها ، وله أدنى بيان يمكنه أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة ، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو أصح منها .

وأنسب إلى العقل : وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم الآخر ، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها ، وما لم نذكره ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير ، تجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ، ولولا المشاهدة لكذب بها ، فيا لله العجب ، كيف يستجيز العقل تكذيب ما أخبرت به الرسل بعد أن سمع ورأى وعاين ما لولا الحس لأنكره غاية الإنكار ؟ ومن هاهنا قال من صح عقله وإيمانه : إن نسبة العقل إلى الوحي أقل وأدق بكثير من نسبة مبادئ التمييز إلى العقل .

التاسع والعشرون : أن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات [ ص: 148 ] الصانع ، بل يلزم من قولهم نفيه بالكلية لزوما بينا ، ولأن العالم مخلوق له ، ولا يمكنهم إقامة دليل على استحالة الهين ، ولا إقامة دليل واحد على استحالة كون الصانع جسما ، ولا إثبات كونه عالما ولا قادرا ولا ربا ، ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن إثبات وجوده سبحانه وتعالى ، فضلا عن تنزيهه عن صفات كماله فنقول : المعارض بين العقل والنقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوة وحدوث العالم والمعاد ، ووافقهم في هذا الأصل الجهمية المعطلة لصفات الرب تعالى وأفعاله ، والطائفتان لم تثبت للعالم صانعا البتة ، فإن الصانع الذي أثبتوا وجوده مستحيل فضلا عن كونه واجب الوجود قديما ، أما الزنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعا لفظا لا معنى ، ثم لبسوا على الناس ، وقالوا : إن العالم صنعه وفعله وخلقه ، ثم هو في الحقيقة عندهم غير مصنوع ولا مخلوق ولا مفعول ، ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقا ولا مفعولا .

قال أبو حامد : وذلك لثلاثة أوجه : وجه في الفاعل ، ووجه في الفعل ، ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل ، وأما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدا مختارا عالما بما يريده حين يكون فاعلا لما يريده ، والله تعالى عندهم ليس مريدا ، بل لا صنعة له أصلا ، وما يصدر عنه فيلزم لزوما ضروريا ، والثاني : أن العالم قديم عندهم والفعل هو الحادث ، والثالث : أن الله تعالى واحد من كل وجه ، والواحد عندهم لا يصدر عنه إلا واحد ، والعالم مركب من خلفات ، فكيف يصدر عنه ؟

قال : ولنحقق وجه كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع حالهم في دفعه فنقول : الفاعل عبارة عما صدر عنه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ، مع العلم بالمراد ، وعندهم أن العالم مع الله كالمعلوم مع العلة ، يلزم لزوما ضروريا لا يتصور مع الله تعالى دفعه ، لزوم الظل للشخص والنور للشمس ، وليس هذا من الفعل في شيء ، بل من قال : إن السراج يفعل الضوء ، والشخص يفعل الظل فقد جاوز وتوسع في التجاوز توسعا خارجا عن الحد ، واستعار اللفظ واكتفى بوقوع المشاركة بين المستعار منه في وصف واحد ، وهو أن الفاعل سبب على الجملة ، والسراج سبب للضوء ، والشمس سبب للنور ، والفاعل لم يسم فاعلا صانعا بمجرد كونه سببا ، بل لكونه سببا على وجه الإرادة والاختيار ، حتى لو قال قائل : الجدار ليس بفاعل ، والحجر ليس بفاعل ، والجماد ليس بفاعل ، وإنما الفعل للحيوان ، لم ينكر ذلك عليه ، [ ص: 149 ] ولم يكن قوله كذبا ، وللحجر فعل عندهم ، وهو الهوي إلى أسفل والميل إلى المركز ، كما أن للنار فعلا ، وهو التسخين ، وللحائط فعلا وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل ، لأن ذلك صادر عنه ، وهذا محال .

قال : فإن قيل : كل موجود ليس بواجب الوجود لذاته بل هو موجود بغيره ، فإنا نسمي ذلك الشيء مفعولا ، ونسمي سببه فعلا ولا نبالي ، كان المسبب فاعلا بالطبع أو بالإرادة ، كما أنكم لا تبالون إن كان فاعلا بآلة أو غير آلة ، بل الفعل جنس ينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى ما يقع بغير آلة ، كذلك هو جنس ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار ، بدليل أنا لو قلنا : فعل بالطبع لم يكن قولنا فعل بالطبع ضدا لقولنا فعلا ، ولا رفعا له ، ولا نقصا له ، بل بيانا لنوع الفعل ، كما إذا قلنا : فعل مباشر بغير آلة لم يكن نقضا ، بل تنويعا وبيانا ، وإذا قلنا : فعل بالاختيار لم يكن تكرارا ، بل كان بيانا لنوع الفعل ، كقولنا : فعل بآلة ، ولو كان قولنا فعل يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ثابتة للفعل من حيث إنه فعل لكان قولنا فعل وما فعل .

قلنا : هذه التسمية فاسدة ، فلا يجوز أن يسمى كل سبب بأي فعل كان فاعلا ولا كل سبب مفعولا ، ولو كان ذلك ما صح أن يقال : الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان ، وهذه من الكلمات المشهورة الصادقة ، فإن سمي الجماد فاعلا فبالاستعارة كما يسمى طالبا مريدا على سبيل المجاز ، ويقال : الحجر يهوي ، لأنه يريد المركز ويطلبه ، والطلب والإرادة هنا حقيقة ، لأنه لا يتصور إلا مع العلم المراد المطلوب ، فلا يتصور إلا من الحيوان ، وأما قولكم : إن قولنا : فعل عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة غير مسلم ، وهو كقول القائل : قولنا : أراد عام ، وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد ، وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد ، وهو فاسد ، إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة ، وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة .

وأما قولكم : إن قولنا : فعل بالطبع ليس بنقص للأول فليس كذلك ، فإنه نقض له من حيث الحقيقة ، ولكنه لا يسبق إلى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه ، فإنه لما أن كان سببا موجبا والفاعل أيضا سببا سمي فعلا مجازا ، وإذا قال : فعل بالاختيار فهو تكوين على التحقيق ، كقوله : أراد ، وهو عالم بما أراد ، إلا أنه لما تصور أن يقال : فعل وهو مجاز ، ويقال : فعل وهو حقيقة لن تنفر النفس عن قوله : فعل بالاختيار ، وكان معناه فعل حقيقيا لا مجازيا ، كقول القائل : تكلم بلسانه ، ونظر بعينه ، فإنه لما [ ص: 150 ] جاز أن يستعمل النظر في القلب مجازا ، والكلام في تحريك الرأس واليد مجازا ، لم يستقبح أن يقال : قال بلسانه ونظر بعينه ، ويكون معناه نفي احتمال المجاز ، فهذه مزلة القدم .

فإن قيل : فتسمية الفاعل فاعلا إنما يعرف من اللغة ، وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببا للشيء ينقسم إلى ما يكون مريدا وإلى ما لا يكون ، فوقع النزاع في أن اسم الفاعل يقع على كل من القسمين حقيقة أم لا ، إذ العرب تقول : النار تحرق ، والثلج يبرد ، والسيف يقطع ، والخبز يشبع ، والماء يروي ، وقولنا : يقطع معناه يفعل القطع ، وقولنا : يحرق معناه يفعل الإحراق ، فإن قلتم : إن ذلك مجاز ، فأنتم متحكمون ، قال : والجواب : أن ذلك طريق ، وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة ، والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثا توقف حصوله على أمرين : أحدهما إرادي والآخر غير إرادي ، أضاف العقل الفعل إلى الإرادي ، فكذا اللغة ، فإن من ألقى إنسانا في نار فمات يقال : هو القاتل دون النار ، حتى إذا قيل : ما قتله إلا فلان كان صدقا ، وإذا كان اسم الفاعل المريد وغير المريد على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلا والآخر مستعارا ، فلم يضف القتل إلى المريد لغة وعرفا وعقلا ، مع أن النار هي العلة القريبة في العقل ، وكان الملقي لم يتعاط إلا الجمع بينه وبين النار ، ولكن لما كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة سمي قاتلا ولم تسم النار قاتلة إلا بمعنى الاستعارة ، فعلم أن الفاعل من يصدر الفعل عن إرادته ، وإذا لم يكن الله مريدا عندهم ولا مختارا للفعل لم يكن صانعا ولا فاعلا إلا مجازا .

فإن قيل : نحن نعني بكون الله فاعلا أنه سبب لوجود كل موجد سواه ، وأن العالم قوامه به ، ولولا وجود الباري لما تصور وجود العالم ، ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء ، فهذا ما نعنيه بكونه فاعلا ، فإن كان الخصم يأبى أن يسمي هذا المعنى فعلا فلا مشاحة في الأسامي بعد ظهور المعنى .

قلنا : غرضنا أن نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلا وصنعا ، وإنما المعنى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقة ، وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ، ونطقتم بلفظه تجملا بالإسلام ، ولا يتم الدين بإطلاق الألفاظ دون المعاني ، فصرحوا بأن الله لا فعل له حتى يتضح أن معتقدكم مخالف لمذهب المسلمين ، ولا تلبسوا بقولكم : إن الله صانع العالم ، فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها ، ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط ثم ساق الكلام إلى أن قال : [ ص: 151 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية