مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فإن قيل : إذا كان خلق إبليس وجنوده من أعظم النعم على المؤمنين ، فأي حكمة ومصلحة حصلت لهؤلاء بخلقهم ؟ فكيف اقتضت الحكمة أن خلقهم لضررهم المحض لأجل منفعة أولئك ؟ وإذا أثبتم اقتضاء الحكمة لذلك طولبتم بأمر هو أشكل عليكم من هذا ، وهو ما جعل من المضار وسيلة إلى حصول غيره إن لم تكن الغاية حاصلة منه وإلا كان في تفويته أولى لما في تفويته من عدم الشر والفساد ، وهذه الوسيلة قد ترتب عليها دخول واحد من الألف إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، فأين الحكمة والمصلحة التي حصلت للمكلفين في خلق الشياطين ؟ فهذان سؤلان في هذا المقام لا يتم مقصودكم إلا بالجواب عنهما .

قيل : حاصل السؤالين أنه أي مصلحة في خلق الشياطين والكفرة لأنفسهم ، وأن مفسدة من خلقوا لمصلحته بهم أضعاف ما حصل لهم من المصلحة ، والجواب عنها من عدة مسالك : [ ص: 255 ] المسلك الأول : إنا وإن عللنا أفعال الرب بالحكم فإنا لا نوجب عليه رعاية المصالح ، بل نقول : إن له في كل خلقه حكمة تعجز العقول عن الإحاطة بها ، وحكمته أعلى وأعظم أن توزن بعقولنا ، وقد بينا بعض الحكم في خلقهم وما يترتب عليها مما هو أحب إليه من فواته ، وهذا المحبوب له إن استلزم وجوده مفسدة في حق ذلك المخلوق ، فالحكمة الحاصلة بخلقه أعظم من تلك المفسدة ، وهذا كما أن المصلحة والمفسدة الحاصلة من ذبح القرابين والهدي والأنساك والضحايا وغيرها أعظم من المفسدة الحاصلة للحيوان بالذبح ، والكفار قرابين أهل الإيمان .

المسلك الثاني : أنا نعلل أفعاله سبحانه بالمصالح ، لكن لا على الوجه الذي سلكه أهل القدر والاعتزال من رعاية المصالح التي اقترحتها عقولهم وحكمت بأنه هو أصلح ، وهذا مسلك باطل يقابل في البطلان مسلك خصومهم من الجبرية الذين ينكرون أن يفعل لغاية أو أن يكون بفعله علة البتة ، فنقول : نعم في خلقهم أعظم المصالح التي هي فعل من ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، بل هو منزه عن مشابهة خلقه في شيء من ذلك ، ثم لنا في هذا المسلك طريقان : أحدهما : أن نقول : خلقوا لمصلحتهم ، من معرفته سبحانه وعبادته وطاعته ، وفطروا على ذلك وهيئوا له ومكنوا منه ، وجعل فيهم الاستعداد والقبول ، وبهذا قامت حجة الله عليهم وظهر عدله فيهم ، فلما أبوا واستكبروا أن ينقادوا لطاعته وتوحيده ومحبته كانوا هم الظالمين المعتدين المستحقين للعذاب ، فجعل تعذيبهم من تمام نعيم أوليائه ، ومصلحة محضة في حقهم ، فإنهم لما فوتوا المصالح التي خلقوا لأجلها واستحقوا عليها العقوبة صارت تلك العقوبة مصالح لأوليائه ، وهذا بمنزلة ملك له عبيد ، هيأ كل واحد منهم لخدمته والقرب منه والحظوة بكرامته ، فأبى بعضهم ذلك ولم يرض به ، فسلط الملك عبيده المطيعين له عليهم ، وقال : أبحتكم دماءهم وأموالهم ونساءهم ومساكنهم شكرا لكم على طاعتي ، وعقوبة لهم على استكبارهم عنها ، وأريتكم عظيم نعمتي عليكم بما أنزلت بهم من نقمتي ، فإنكم لو عملتم مثل عملهم جعلتكم بمنزلتهم ، فكلما شاهدوا عقوبتهم ازدادوا محبة ورغبة وذكرا وشكرا للملك واجتهادا في طاعته وبلوغ مرضاته ، وتلك العقوبة التي نالتهم إنما هي بسبب أعماله ، لم يظلمهم الملك شيئا ، ولله المثل الأعلى والنعمة السابغة والحجة البالغة ، قال الله تعالى : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ) .

[ ص: 256 ] فتأمل ما تحت هذا الخطاب من العدل واللطف والرحمة ، وأنه سبحانه ليس له غرض في تعذيبكم ، ولا يعذبكم تشفيا ولا لحاجة به إلى ذلك ، ولا هو ممن يعذب سدى باطلا بلا موجب ولا سبب ، ولكن لما تركتم الشكر والإيمان واستبدلتم به الكفر والشرك وجحود حقه عليكم وإنكار كماله ، وأبدلتم نعمته كفرا ، أحللتم بأنفسكم جزاء ذلك وعقوبته وسعيتم بجهدكم إلى دار العقوبة ساعين في أسبابها ، بل دعاته ورسله تمسك بأيديكم ، وحجزكم عن الطريق الموصلة إلى محل عذابه ، وأنتم تجاذبونهم أشد المجاذبة وتتهافتون فيها ، ولم يكفكم ذلك حتى بغيتم طريق رضاه ورحمته عوجا ، وصددتم عنها ونفرتم عباده عنها بجهدكم ، وآثرتم موالاة عدوه على موالاته وطاعته ، فتحيزتم إلى أعدائه متظاهرين عليه ، ساعين في إبطال دعوته الحق ، فما يفعل سبحانه بعذابكم لولا أنكم أوقعتم أنفسكم فيه بما ارتكبتم .

وهذا المسلك ظاهر المصلحة والحكمة والعدل في حقهم وإن كانوا هم الذين فوتوا على أنفسهم المصلحة ، قال الله تعالى : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ، وهذا الأمر لا بد أن يشهدوه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ، ويقروا به ولا يبقى عندهم ريب ولا شك ، وتأمل قوله الحق : ( نسوا الله فنسيهم ) ، وقوله : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) كيف عدل فيهم كل العدل بأن نسيهم كما نسوه ، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها ، وأسباب لذاتها وفرحها ، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم ، المتحبب إليهم بآلائه ، فقابلوا ذلك بنسيان ذكره والإعراض عن شكره ، فعدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها ، وليس بعد تعطيل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به وتتألم بفوته غاية الألم .

ونحن في هذا المسلك في غنية عن أن نقول : إن تعذيبهم غير مصلحتهم كما قاله غير واحد من أرباب المقالات ، كما حكاه عنهم الأشعري وغيره ، فإن هؤلاء لم يثبتوا وجه المصلحة لهم في تعذيبهم ، بل أرسلوا القول بذلك إرسالا ، وكأنهم حاموا حول أمر لم يمكنهم وروده ، وهو أن هؤلاء وإن كانوا به مشركين ولحقه جاحدين ، فإنهم إنما خلقوا على الفطرة السليمة التي هي دين الله ، ولكن عرض لهم ما نقلهم عنها [ ص: 257 ] حتى فسدت وبطل حكمها ، وصار الناقل لهم عنها هو الحاكم العامل فيهم ، وهذا أمر خارج عن مقتضى الخلقة وأصل الفطرة ، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : ( إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " فأخبر أن أصل ولادتهم ونشأتهم على الفطرة ، وأن التهويد والتنصير والتمجيس طارئ طرأ على الفطرة وعارض عرض لها ، واقتضى هذا العارض الذي عرض للفطرة أمورا استلزمت ترتيب آثارها عليها بحسب قوتها وضعفها ، فالآلام المترتبة على ذلك من جنس الآلام والعقوبات المترتبة على خروج البدن عن صحته ، وهو إنما خلق على الصحة والاعتدال ، فإذا استمر على ذلك لم يعرض له ألم ، وكذلك القلب فطر على الفطرة الصحيحة ، فلما عرض له الفساد ترتب على ذلك العارض أثره من الآلام والعقوبات ، ولا ريب أن ذلك العارض ليس في أصل الفطرة بحيث يستحيل زواله ، بل هو ممكن الزوال ، والناس في زواله ، فحين عاد إلى موجب الفطرة أجاب الداعي من غير توقف ، ومنهم من توقف لقوة العارض فاحتاج مع الدعوة إلى موعظة تتضمن ترهيبه وترغيبه ، ومنهم من غلبت عليه المادة الفاسدة فاحتاج مع ذلك إلى المجادلة ، ومنهم من كان العارض أشد من ذلك فعدل معه إلى الجلاد والمحاربة ونوع من العقوبة ، فأزال ذلك تلك المادة وأعاد الفطر إلى صحتها ، ومنهم من كان فساد فطرته قد استحكم وتمكن ، فصار له بمنزلة الصفة الثابتة ، ولم يكن بد من أن يحتمي عنه ليزول ذلك الخبث ويتخلص منه ، ويعود على ما خلق عليه أولا .

ولهذا لما خرج خبث الموحدين من أهل الكبائر بسرعة ؛ تعجل خروجهم من النار ، وعاد إلى ما خلقوا عليه أولا من كمال النشأة وزوال موجب هذا العذاب ، فلم يبق لهم مصلحة في التعذيب بعد ذلك ، وأما المشركون : فلما كان العارض استحكم فيهم وصار كالهيئة والصفة استمروا في النار ، تحمى عليهم أشد الحمو لقوة ذلك الخبث [ ص: 258 ] ولزومه لهم ، ومعلوم أنه لو فارقهم في الدنيا وانسلخوا منه لم يعذبوا ، فإذا فارقهم في النار وانسلخوا منه زال موجب العذاب ، فعمل مقتضى الفطرة علمه ، وأبدلوا ذلك بوجوه ، هذا أحدها .

الوجه الثاني : أن الله تعالى لم يخلق شيئا يكون شرا محضا من كل وجه ، لا خير فيه بوجه من الوجوه ، فإن هذا ليس في الحكمة ، بل ذلك لا يكون إلا عدما محضا ، والعدم ليس بشيء ، والوجود إما محض ، إما أن يكون فيه خير من وجه وشر من وجه ، فأما أن يكون شرا من كل وجه ، فهذا ممتنع ، ولكن قد يظهر ما فيه من الشر ويخفى ما في خلقه من الخير ، ولهذا قال تعالى للملائكة وقد سألوا عن خلق هذا القسم فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) فإذا كانت الملائكة ، مع قربهم من الله وعلمهم بأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه ، لم يعلم حكمته سبحانه في خلق من يفسد كما يعلمها الله ، بل هو سبحانه متفرد بالعلم الذي لا يعلمونه ، فالبشر أولى بأن لا يعلموا ذلك ، فالخير كله في يدي الرب ، والشر ليس إليه ، فلا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وإن دخل في مفعولاته بالعرض لا بالذات ، وبالقصد الثاني لا الأول دخولا إضافيا ، وأما الخير فهو داخل في أسمائه وصفاته وأفعاله ومفعولاته بالذات والقصد الأول ، فالشر إنما يضاف له مفعول لا فعله ، وفعله خير محض ، وهذا من معاني أسمائه المقدسة ، كالقدوس والسلام والمتكبر ، فالقدوس الذي تقدس عن كل عيب ، وكذلك السلام ، وكذلك المتكبر ، قال ميمون بن مهران : تكبر عن السوء والسيئات ، فلا يصدر منه إلا الخيرات ، والخيرات كلها منه ، فهو الذي يأتي بالحسنات ويذهب بالسيئات ، ويصلح الفاسد ولا يفسد الصالح ، بل ما أفسد إلا فاسدا ، وإن كان الظاهر الذي يبدو للناس صالحا فهو يعلم منه ما لا يعلم عباده .

والمقصود أنها الإعدام ولوازمها : فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها وسيئات الأعمال وسيئات الجزاء ، وهي مترتبة على عدم الإيمان والطاعة وموجباتها ، فإذا أراد الله بعبده الخير أراد من نفسه سبحانه أن يوفقه له ويعينه عليه ، فيوجد منه فيترتب عليه من الأمور الوجودية ما فيه صلاحه وسعادته ، فإذا لم يرد به خيرا لم يرد من نفسه أن يعينه ويوفقه ، فيبقى مستمرا على عدم الخير الذي هو الأصل ، فيترتب على هذا العدم [ ص: 259 ] فقد الخير وأسبابه ، وذلك هو الشر والألم ، فإذا بقيت النفس على عدم كمالها الأصلي وهي متحركة بالذات لم تخلق ساكنة ؛ تحركت في أسباب مضارتها وألمها ، فتعاقب بخلق أمور وجودية ، يريد الله سبحانه تكوينها عدلا منه في هذه النفس وعقوبة لها ، وذلك خير من جهة كونه عدلا وحكمة وعبرة وإن كان شرا بالإضافة إلى المعذب والمعاقب ، فلم يخلق الله سبحانه شرا مطلقا بل الذي خلقه من ذلك خير في نفسه وحكمة وعدل ، وهو شر نسبي إضافي في حق من أصابه ، كما إذا أنزل المطر والثلج والرياح وأطلع الشمس كانت هذه خيرات في نفسها وحكم ومصالح ، وإن كانت شرا نسبيا إضافيا في حق من تضرر بها .

وبالجملة فالكلمة الجامعة لهذا هي الكلمة التي أثنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه حيث يقول : " والشر ليس إليك " فالشر لا يضاف إلى من الخير بيديه ، وإنما ينسب إلى المخلوق ، كقوله تعالى : ( قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ) فأمره أن يستعيذ به من الشر الذي في المخلوق ، فهو الذي يعيذ منه وينجي منه ، وإذا أخلى العبد قلبه من محبته والإنابة إليه ، وطلب مرضاته ، وأخلى لسانه من ذكره والثناء عليه ، وجوارحه من شكره وطاعته ، فلم يرد من نفسه ذلك ونسي ربه ، لم يرد الله سبحانه أن يعيذه من ذلك ونسيه كما نسيه ، وقطع الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده ، قال تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه ، وقد صرح سبحانه بهذا المعنى بعينه في قوله تعالى : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) أي نخلي بينهم وبين نفوسهم التي ليس لهم منها إلا الظلم والجهل ، وقال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) وقال تعالى : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) فعدم إرادته تطهيرهم ، وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه .

فالذي إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير ، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه ، فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة وبعقوبته لهم به تارة ، وإليهم انتهت غايته ووقوعه ، فتأمل هذا الموضع كما [ ص: 260 ] ينبغي ، فإنه يحل عنك إشكالات حار فيها أكثر الناس ولم يهتدوا إلى الجمع بين الملك والحمد والعدل والحكمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية