مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ولنرجع إلى المقصود ، وهو أن الذين قالوا : عذاب الكفار مصلحة لهم ورحمة لهم حاموا حول هذا المعنى ، ولم يقتحموا لجته ، وإلا فأي مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع ، وهو دائم بدون الرب تعالى ، فتأمل هذا الوجه حق التأمل وأعطه حقه من النظر ، واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته ، وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله ، وما قاله الصحابة ومن بعدهم ، ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار ، فإن أسفر لك صبح الصواب ، وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله : ( إن ربك فعال لما يريد ) وتمسك بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ووصف حالهم ثم قال : " ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء " .

الوجه الرابع : أن الذي يخلقه الله سبحانه ويقدره من الأمور نوعان : غايات ووسائل ، وقد اقتضت حكمته أن الوسائل تضمحل وتبطل إذا حصلت غايتها كما يبطل السفر عند بلوغ المنزل ، ويزول الأكل والشرب عند حصول الشبع والري ، والخيرات والمنافع هي الغايات المقصودة لنفسها .

والشرور والآلام إنما تقصد قصد الوسائل ، لإفضائها إلى الخيرات والمنافع ، وما كان مقصودا لنفسه فإن بقاءه ودوامه هو مقتضى الحكمة ، وأما إذا كان مقصودا لغيره ، فإذا حصل ذلك المقصود به لم يكن في دوامه وبقائه حكمة ولا مصلحة ، والله تعالى خلق النار سوطا يسوق بها عباده إلى رحمته وجنته ، ويخوفهم بها من معصيته ويطهر بها من اكتسب من عباده خبثا ونجاسة ، ولا [ ص: 268 ] يصلح إلا بها لمساكنته في جنته ، وعقوبته يعاقب بها أعداءه على مقادير جرائمهم ، وهذه كلها أمور مقصودة لغيرها مفضية إلى مصالح مقصودة لنفسها .

يوضحه الوجه الخامس : أن الله سبحانه جعل الشدائد والآلام والشرور في هذه الدار بتراء لا دوام لها ، وجعل الشدة بين فرجين ، فرج قبلها وفرج بعدها ، والعسر بين يسرين ، والبلاء بين عافيتين ، فليس عنده شدة دائمة ولا بلاء دائم ولا كرب دائم في هذه الدار التي هي دار ظلم وبلاء وخيراتها ممزوجة بشرورها ، وذلك أن الآلام والشدائد شرور ، والشر ليس إلى الله بخلاف الخيرات والنعم ، فإنها من مقتضى صفاته ، فهي دائمة بدوامه ، ومعلوم أن الدار التي هي حق من كل وجه أولى أن يكون الدوام لخيراتها ولذاتها ومسراتها ، وأن تكون شرورها إلى اضمحلال وزوال .

يوضحه الوجه السادس : أن القضاء الإلهي خير كله ، فإن مصدره علم الله وحكمته وكماله المقدس ، فهو خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة ، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات كالشر العارض في الحر والبرد والمطر ، والأكل والشرب والأعمال النافعة ، وما العرض لا يقصد لذاته فلا يجب دوامه كدوام ما يقصد لذاته من الخيرات والمنافع .

الوجه السابع : أنك إذا اعتبرت هذه الآلام والشدائد ، والنعمة والرحمة حشوها فظاهرها نقمة وباطنها نعمة فكم نقمة جلبت نعمة ، وكم من بلاء جلب عافية ، وكم من ذل جلب عزا ، وكسر جلب جبرا ، إذا اعتبرت أكثر الخيرات والمسرات واللذات وجدتها إنما ترتبت على الآلام والمشاق ، وأعظم اللذة وأجلها ما كان سببه أعظمه ألما ومشقة ، وهذه مشاهد في هذه الدار بالعيان ، ولما كانت أعلى الدرجات أهل الجهاد كان أشق شيء على النفوس وأكرهه إليها ، قال الله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ولهذا قيل :

وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب

فلا يوصل إلى الراحة واللذة إلا على جسر التعب والألم ، وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم ولذات ومسرات ، وهذا لأن الرحمة لها السبق والغلبة فما في طي النقم والعقوبات من الرحمة أسبق من العقوبة ، وهي الغاية للغضب ، فلا بد أن يغلب أثرها أثر الغضب ، كما غلبت الصفة للصفة .

[ ص: 269 ] يوضحه الوجه الثامن : أن الرحمة سبقت إلى هذا المعاقب وظهر أثرها فيه فوجد بها وعاش وسمع وأبصر بها ، وبطش بها ومشى وتحرك بها ، وإلا لولا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة ، بل إنما استظهر على معاصي الرب ومخالفته بالرحمة التي سبقت إليه ووسعته فغلبت أسباب هلاكه وتلفه ، فلما تمكنت أسباب التلف والهلاك واقتضت الرحمة أن جعل لها أسباب في مقابلتها ، من موجبها ومقتضاها تنزيلها ومحو أثرها ؛ ليخلص موجب الرحمة فيظهر أثره ، ودوام العذاب بدوام تلك الأسباب ، فلو زالت لزال العذاب .

يوضحه الوجه التاسع : أن هذه النفوس فيها ما يقتضي الرحمة من إقرارها بفاطرها وربوبيته ، وعلمه وقدرته ، وسمعه وبصره ومحبته ، وتعظيمه وإجلاله وسؤاله ، وفيها ما يقتضي الغضب والعقوبة كالشرك به وإيثار هواها على طاعته ومرضاته ، ولما كان مقتضى العقوبة فيها أقوى كان الحكم له ، ومعلوم أن العقوبة إن لم تذهب الأسباب المقتضية لها ولم تزلها بالكلية فإنها تخففها وتضعفها ، فإما أن تقاوم أسبابا وإما أن تترجح عليها وعلى التقديرين يبطل أثرها ، قال الله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) وقال تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله ) إلى آخر الآيات .

فهم يعلمون أن الأرض ومن فيها له ، وأنه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ، وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وإذا مسهم الضر في البر والبحر تضرعوا إليه وفزعوا إليه ، وقالوا : إنما نعبد من دونه هذه الآلهة لتقربنا إليه وتشفع لنا عنده ، وهو يملكها ، ونواصيها بيده ، ويحبونه ويقصدون التقرب إليه ، وهذا مما وضعه فيهم برحمته ونعمته ، فعلم فيهم ما يقتضي رحمته ونعمته ولكن لما غلبت أسباب النقمة كان الحكم للغالب ، ذلك لا يمنع اقتضاء المغلوب أثره وترتبه عليه .

وقد ثبت في الصحيح أن الله يقول للملائكة : أخرجوا من النار من في قلبه من الخير ما يزن ذرة أو برة ، وأنها تخرج منها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان ، [ ص: 270 ] فانظر هذا الجزء اللطيف جدا كيف غلب تلك الأسباب الكثيرة القوية وأبطلها وعاد الحكم له ، وثبت في الصحيحين " أنه يخرج منها من لم يعمل خيرا قط " .

ولكن هذا إخراج منها وهي باقية على حقيقتها وناريتها ، فأخرج منها بهذا الجزء اليسير ، ومعلوم أن أعداءه المشركين لن تخلو قلوبهم من الإيمان به ، قال الله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فأثبت لهم إيمانا مع الشرك ، وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار ، كما أثر إيمان أهل التوحيد ، بل كانوا معه خالدين فيها بشركهم وكفرهم ، فإن النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم ، فلا يمتنع في الرحمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم ، فيجتمع ضعف أسباب تسعيرها وقوة أسباب زوالها ، فهذا غير ممتنع في الحكمة الإلهية ، ولم يخبر الرسول بامتناعه ، وأنه لا يكون في موضع واحد .

ولا دل على ذلك نقل ولا عقل ، بل الذي دل عليه النقل والإجماع أنهم خالدون فيها أبدا ، وأنهم ليسوا بخارجين منها ، ولا يموتون فيها ولا يحيون ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ، وإنما الشأن في أمر آخر .

الوجه العاشر : أن أسباب العذاب من النفس وغاياتها اتباع أهوائها ، وأما أسباب الخير فمن ربها وفاطرها ، وهو الغاية والمقصود بها ، فهي به وله ، قال الله تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) فالحسنات مصدرها من الله وغايتها منتهية إليه ، والسيئات من النفس وهي غايتها ، قال الله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) فليس للحسنات سبب إلا مجرد فضل الله ومنته ، والأعمال الصالحة وإن كانت أسباب النعم والخيرات فمن وفقه لها وأعانه عليها وشاءها له سواه ؟ فالنعم وأسبابها من الله ، وأما السيئات التي أسلفها العبد فمن نفسه ، وسببها جهله وظلمه ، فإذا ترتبت عليها سيئات الجزاء كان السبب والمسبب من نفسه ، [ ص: 271 ] فليس للجزاء السيئ في الدنيا والآخرة سبب إلا ذنوب العبد التي من نفسه ، فالشر كله والخير كله من ربه ، فإن أكثره ليس للعبد فيه مدخل ، فإن الله هو الذي أنعم عليه به ، ولهذا قال بعض السلف : " لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه " ولهذا قال تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) فخص بالخطاب تنبيها على الأدنى ، ولم يخرجه في صورة العموم لئلا يتوهم أنه عام مخصوص ، فكان ذكر الخاص أبلغ في العموم وقصده من ذكر العام ، فتأوله فإنه عجيب في القرآن .

والمقصود أن سبب الحسنات كلها هو الحي القيوم الذي لم يزل ولا يزال ، وهو الغاية المقصودة من فعلها بدوام سببها ، وأما السيئات فسببها وغايتها منقطع هالك فلا يجب دوامها ، فتأمل هذا الوجه فإنه من ألطف الوجوه ، فإن الأسباب تضمحل باضمحلال غاياتها وتبطل ببطلانها ، ولهذا كان كل عمل باطلا إلا ما أريد به وجه الله ، فإن جزاءه وثوابه يدوم بدوامه ، ما لم يرد به وجه الله وأريد به ما يضمحل ويفنى ، فإنه يفنى بفنائه ، قال الله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) ، وهذه هي الأعمال التي كانت لغيره ، فكما أن ما لا يكون به لا يكون ، فما كان لغيره لا يدوم ، ولهذا كان لبعض حكم الله تعالى في تخريب هذا العالم أن يشهد من عبد شيئا غيره أنه لا يصلح للعبادة والألوهية ويشهد العابد حال معبوده ، والمقصود أن النعم تدوم بدوام سببها وغايتها ، وأن الشرور والآلام تبطل وتضمحل باضمحلال سببها .

فهذه الوجوه وغيرها تبين أن الحكمة والمصلحة في خلق النار تقتضي بقاءها ببقاء السبب والحكمة التي خلقت له ، فإذا زال السبب وحصلت الحكمة عاد الأمر إلى السابقة الغالبة الواسعة .

يزيد وضوحا الوجه الحادي عشر : أن الرب يستحيل أن يكون إلا رحيما ، فرحمته من لوازم ذاته ، ولهذا كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب على نفسه الغضب ، فهو لم يزل ولا يزال رحيما ، ولا يجوز أن يقال : إنه لم يزل ولا يزال غضبان ، ولا أن غضبه من لوازم ذاته ، ولا أنه كتب على نفسه العقوبة والغضب ، ولا أن غضبه يغلب رحمته ويسبقها [ ص: 272 ] وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : " إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " فإذا كان ذات الغضب الشديد لا يدوم ولا يستمر بل يزول ، وهو الذي سعر النار ، فإنها إنما سعرت بغضب الجبار تبارك وتعالى ، فإذا زال السبب الذي سعرها ، فكيف لا تطفأ ، وقد طفئ غضب الرب وزال .

وهذا بخلاف رضاه فإنه من لوازم ذاته دائم بدوامها ، ولهذا دام نعيم أهل الجنة والرضا ، كما يقول لهم في الجنة : " إني أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا " فكيف يساوى بين موجب رضاه وموجب سخطه في الدوام ، ولم يستو الموجبان .

التالي السابق


الخدمات العلمية