هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 486 ] وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون وما تكره اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح ، والانسلاخ منه جملة ، فرأوا اليهود أنهم قالوا في المسيح : إنه ساحر ممخرق ولد زنا ، فقالوا : هو الرتام وهو ابن الله ! ! ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان ! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة ! ورأوهم يجتنبون من مؤاكلة الحائض وملامستها ، فجامعوها هم ! ورأوهم يحرمون الخنزير ، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم ، ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة ، وقالوا : كل ما شئت ودع ما شئت لا حرج .

ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا هم الشرق ، ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها ، فجوزوا هم لأساقفتهم وبطاركتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا .

ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه فحرموا هم الأحد ، وأحلوا السبت مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه .

ورأوهم ينفرون من الصليب ، فإن في التوراة التي بأيديهم ملعون من تعلق بالصليب ، والنصارى تقر بهذا ، فعبدوا هم الصليب ، كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا فتعبدوا هم بأكله .

وفيها الأمر بالاختتان ، فتعبدوا بتركه ، مع إقرار النصارى أن المسيح قال لأصحابه : [ ص: 487 ] إنما جئتكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضا بل متمما ، ولأن تقع السماء على الأرض ، أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى .

فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم ، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بإفراكيس .

( أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها - من الشام - فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح ، فدعوهم إلى العمل في التوراة ، وتحريم ذبائح من ليس أهلها ، وإلى الختان وإقامة السبت ، وتحريم الخنزير ، وتحريم ما حرمته التوراة ، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه ، فاجتمع النصارى ببيت المقدس ، وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليجيبوهم إلى دين المسيح ، ويدخلوا فيه ، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم ، والترخيص لهم والاختلاط بهم ، وأكل ذبائحهم ، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم ، وأنشئوا في ذلك كتابا ، فهذا أحد مجامعهم الكبار - وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعا - وافتروا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع [ ص: 488 ] لهم أكبر منه في زمن قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية ) .

وفي زمنه بدل دين المسيح وهو الذي شاد دين النصرانية المبتدع ، وقام به وقعد ، وكان عدتهم زهاء ألفي رجل ، فقرروا تقريرا ثم رفضوه ولم يرتضوه ، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم ، والنصارى يسمونهم الآباء ، فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم ، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم ، لا تتم لأحد منهم نصرانية إلا به ، ويسمونه سنهودس وهي الأمانة ! ولفظها :

نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله ، بكر أبيه وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، الذي بيده أتقنت العوالم وخالق كل شيء ، الذي من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من الروح القدس ، ومن مريم البتول ، وحبلت به مريم البتول ، وأخذ وصلب أيام [ ص: 489 ] بلاطس الرومي ، ومات ودفن ، وقام في اليوم الثالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بالرب الواحد الذي يخرج من أبيه روح محبته ، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية ، وبقيام أبداننا ، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين .

فصرحوا فيها بأن المسيح رب ، وأنه ابن الله وأنه بكره ، وأنه ليس له ولد غيره ، وأنه ليس بمصنوع ، أي ليس بعبد مخلوق بل هو رب خالق ، وأنه إله حق استل وولد من إله حق ، وأنه مساو لأبيه في الجوهر ، وأنه بيده أتقنت العوالم ، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم ، هي التي ذاقت حر المسامير كما صرحوا به في كتبهم ، وهذه ألفاظهم :

قالوا : وقد قال القدوة عندنا : إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة ، هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته ، وهي اليد التي شبرت السماء ، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى ، قالوا : وقد وصفوا صنيع اليهود به - وهذه ألفاظهم - وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه .

قالوا : وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتلده ويؤخذ ويصلب ويقتل .

قالوا : وأما سنهودس دون الأمم ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة وفيه : أن مريم حبلت بالإله وأولدته وأرضعته وسقته وأطعمته ، قالوا : وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه ، وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه ، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه ، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها .

قالوا : وقد قال علماؤنا : ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا : يسوع في البدء لم يزل [ ص: 490 ] كلمة ، والكلمة لم تزل الله ، والله هو الكلمة ، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله ، وهو ابن الله وهو كلمة الله .

هذه ألفاظهم ، قالوا : فالقديم الأزلي خالق السماوات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم ، وهو الذي حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها ، حيث قال للأعمى : أنت تؤمن بالله ؟ قال الأعمى : ومن هو حتى أؤمن به ؟ قال : هو المخاطب لك . فقال : آمنت بك وخر ساجدا .

قالوا : فالذي حبلت به مريم هو الله ، وابن الله ، وكلمة الله ، قالوا : وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم .

قالوا : وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح بل هو رب الأنبياء ، وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة .

قالوا : وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة ، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات ، ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه ، فلهذا فارقت جميع إناث الحيوان ، وفارق ابنها جميع الخلق ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء ، وحبلت به مريم وولدته إلها واحدا ومسيحا واحدا ، وربا واحدا ، وخالقا واحدا ، لا يقع بينهما فرق ، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه لا في حبل ، ولا في ولادة ، ولا في حال نوم ، ولا مرض ، ولا صلب ، ولا موت ، ولا دفن ، بل هو متحد به في حال الحبل ، فهو في تلك الحال مسيح واحد ، وخالق واحد ، وإله واحد ، ورب واحد ، وفي حال الولادة كذلك ، وفي حال الصلب والموت كذلك ، قالوا : فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى فيقول : مريم حبلت بالإله ، وولدت الإله ، ومات الإله ، ومنا [ ص: 491 ] من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ، ويعطى معناها وحقيقتها ، ويقول : مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة ، وولدت المسيح في الحقيقة ، وهي أم المسيح في الحقيقة ، والمسيح إله في الحقيقة ، ورب في الحقيقة ، وابن الله في الحقيقة ، وكلمة الله في الحقيقة ، لا ابن لله في الحقيقة سواه ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو .

قالوا : فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من يقول حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وقتل الإله ، وصلب الإله ودفن الإله ، وإن منعوا اللفظ والعبارة .

قالوا : وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا ، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا : حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وأم إله ، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب ، ولكنا نقول : حل هذا كله ونزل بالمسيح ، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه ، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط ، قالوا : فهذا حقيقة ديننا وإيماننا ، والآباء والقدوة قد قالوا قبلنا وسنوه لنا ومهدوه وهم أعلم بالمسيح منا .

ولا يختلف المثلثة عباد الصليب من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي ولا عبد صالح ، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ، وأنه إله تام من إله تام ، وأنه خالق السماوات والأرض ، والأولين والآخرين ، ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم من القبور ، وحاشرهم ومحاسبهم ، ومثيبهم ومعاقبهم .

والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله ، وجعله لابنه ، فهو الذي يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويدبر أمر السماوات والأرض .

ألا تراهم يقولون في أمانتهم : ابن الله وبكر أبيه ، وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للفصل بين الأموات والأحياء ؟

[ ص: 492 ] ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم : أنت أيها المسيح يسوع تحيينا وتميتنا ، وترزقنا وتخلق أولادنا ، وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية