هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصـل : في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لبطلت نبوة سائر الأنبياء ، فظهور نبوته تصديق لشهادتهم وشهادة لهم بالصدق ، فإرساله من آيات الأنبياء قبله ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله : بل جاء بالحق وصدق المرسلين .

فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه ، فمجيئه هو نفس صدق خبره ، فكأن مجيئه تصديق لهم إذ هو تأويل ما أخبروا به ، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر : إن تصديقه المرسلين بشهادته بصدقهم وإيمانه بهم ، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه ، وشهد بصدقهم بقوله . ومثل هذا قول المسيح : مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .

[ ص: 526 ] فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها ، ثم بشر برسول يأتي من بعده ، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له ، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة ، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق ، واللاحق يصدق السابق ، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله .

والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده ولا يكذب خبره وقد كان بشر إبراهيم وهاجر ببشارات بينات ولم نرها تمت ولا ظهرت إلا بظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح ، على أن مريم بشرت به مرة واحدة ، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين ، وبشر به إبراهيم مرارا .

ثم ذكر الله سبحانه هاجر وبعد وفاتها كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ففي التوراة أن الله قال لإبراهيم : قد أجبت دعاك في إسماعيل ، وباركت عليه ، وكثرته ، وعظمته جدا جدا . وسيلد اثني عشر عظيما ، هكذا ترجمة بعض المترجمين .

وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول : وسيلد اثني عشر أمة من الأمم وفيها : لما هربت هاجر من سارة تزايا لها ملك الله ، وقال : يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت ؟ وإلى أين تذهبين ؟ قالت : هربت من سيدتي ، فقال لها الملك : [ ص: 527 ] ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها ، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، ها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل ، لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وخشوعك ، وهو يكون عين الناس ، وتكون يده فوق الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته .

وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران ، وفيها : فقال الملك : يا هاجر ليفرح روعك . فقد سمع الله تعالى صوت الصبي ، قومي فاحمليه وتمسكي به ، فإن الله تعالى جاعله لأمة عظيمة ، وأن الله تعالى فتح عليها فإذا بئر ماء فذهبت وملأت المزادة منه ، وسقت الصبي منه ، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى ، وكان مسكنه في برية فاران .

فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل ، نزلت اثنتان منها على إبراهيم واثنتان على هاجر . وفي التوراة بشارات أخرى بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدا ، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأمته . وإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين خولا للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران ، وأورثهم أرض الشام ، فكانت كرسي مملكتهم ، ثم سلبهم ذلك وقطعهم في الأرض أمما مسلوبا عزهم وملكهم ، قد أخذتهم سيوف السودان ، وعلتهم أعلاج الحمران حتى ظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل وعلت وانتشرت في آفاق الدنيا ، ومدت وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما ، وطحنوهم طحنا ، وانتشروا في آفاق الدنيا ، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع ، وعلوهم [ ص: 528 ] علو الثريا فيما بين الهند والحبشة والسوس الأقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر ، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين . وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم ، فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم والد إسماعيل .

وأما النصرانية وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة ، فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر ألبتة ، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ، ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع ، وكذلك سائر ما تقدم من البشارات ، ويفيد مجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته . فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلت النبوات .

ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي بشروا به ، قالوا : نحن في انتظاره ولم يجئ بعد .

ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ابن اسمه إسماعيل ، وأن هذا لم يخلقه الله تعالى .

ولا يكثر على أمة البهت وإخوان القرود وقتلة الأنبياء مثل ذلك ، كما لم يكثر على المثلثة وعباد الصليب الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا ، وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية