هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
ثم هلك هذا الملك ، وقام بعده آخر ، فنصب يهودا أسقفا على بيت المقدس . قال ابن البطريق : فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهودا أسقفه هذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مجبوبين .

[ وعاد البلاء ]

ثم ولي بعده آخر فأثار على النصارى بلاء شديدا وحزنا طويلا ، ووقع في أيامه [ ص: 545 ] قحط شديد كاد الناس أن يهلكوا ، فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم ، فدعوا وابتهلوا إلى الله فأمطروا وارتفع القحط والوباء .

قال ابن البطريق : وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس ، وبترك أنطاكية وبترك رومية في ( كتاب ) فصح النصارى وصومهم ، وكيف يستخرج من فصح اليهود ، فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم .

قال : وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ، ويفطرون كما فعل المسيح ، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها صائما أربعين يوما .

وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح ، فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح ليكون فطرهم ( يوم الفصح ) ، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم ، فاستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم ، فلم يصوموا عقيب الغطاس ، بل نقلوا الصوم إلى وقت لا يكون عيدهم مع ( عيد ) اليهود .

ثم مات ذلك الملك ، وقام بعده آخر ، وفي زمنه كان جالينوس ، وفي زمنه ظهرت الفرس ، وغلبت على بابل وآمد وفارس ، وتملك أزدشير بن بابك في [ ص: 546 ] ( إصطخر ) وهو أول ملك على فارس في المدة الثانية .

ثم مات قيصر وقام بعده آخر ، ثم آخر ، وكان شديدا على النصارى عذبهم عذابا شديدا ، وقتل خلقا كثيرا منهم ، وقتل كل عالم فيهم ، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى ، وهدم الكنائس ، وبنى بالإسكندرية هيكلا وسماه هيكل الآلهة .

ثم قام بعده قيصر آخر ، ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة ، وكانت تحت ذمة - أي تحت ذمة الروم .

ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل منهم خلقا ، وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا منهم وقتل كل عالم فيهم ، وقتل بترك أنطاكية ، فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي .

ثم هلك وقام بعده آخر ، وفي أيام هذا ظهر ماني الكذاب ، وزعم أنه نبي ، وكان كثير الحيل والمخاريق ، فأخذه بهرام ملك الفرس فشقه نصفين ، وأخذ من أتباعه مائتي رجل فغرس رءوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا .

[ ص: 547 ] ثم قام من بعده فيليبس فآمن بالمسيح فوثب عليه بعض قواده فقتله ، ثم قام بعده ذانقيوس ، ويسمى دقيانوس فلقي النصارى منه بلاء عظيما ، وقتل منهم ما لا يحصى ، وقتل بترك رومية ، وبنى بكنيستها هيكلا عظيما وجعل فيه الأصنام ، وأمر أن يسجد لها ويذبح لها ، ومن لم يفعل يقتل ، فقتل خلقا كثيرا من النصارى ، وصلبوا على الهيكل ، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان ، فجعلهم خاصته فقدمهم على جميع من عنده ، وكانوا لا يسجدون للأصنام ، فأعلم الملك بخبرهم ، فحبسهم ثم أطلقهم ، وخرج إلى مخرج له ، فأخذ الفتية كل مالهم فتصدقوا به ، ثم خرجوا إلى جبل عظيم فيه كهف كبير ، فاختفوا فيه ، وصب الله عليهم النعاس فناموا كالأموات ، وأمر الملك أن يبنى عليهم باب الكهف كي يموتوا ، فأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس ، فيها أسماؤهم وقصتهم مع دقيانوس ، وصيرها في صندوق من نحاس ، ودفنه داخل الكهف وسده ، ثم مات الملك ، ثم قام بعده قيصر آخر ، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركا [ ص: 548 ] يسمى بولس الشمشاطي وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة أنه عبد رسول مخلوق ومربوب لا يختلف فيه اثنان منهم ، فقال : بولس هذا - وهو أول من أفسد النصارى وأفسد دينهم - إن سيدنا عيسى خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره ، أن ابتداء الابن من مريم ، وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، وصحبته النعمة الإلهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي ابن الله ، وقال : إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد .

وقال سعيد بن بطريق : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة أنطاكية ، ونظروا في مقالة بولس ، وأوجبوا عليه اللعن فلعنوه ولعنوا من يقول قوله وانصرفوا .

ثم قام قيصر آخر فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر ، خوفا أن يقتل ، فقام ( بارون ) بتركا ، فلم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة .

ثم قام قياصرة أخر ، منهم اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة ، فأثارا على النصارى بلاء عظيما ، وعذابا أليما ، وشدة تجل عن الوصف في القتل والعذاب واستباحة الحريم والأموال ، وقتلا ألوفا مؤلفة من النصارى ، وعذبوا مارجرجس أشد [ ص: 549 ] العذاب ثم قتلوه ، وفي زمانهما ضربت عنق بطرس بترك الإسكندرية ، وكان له تلميذان .

وكان في زمنه آريوس ، يقول : إن الأب وحده الله الفرد الصمد ، والابن مخلوق مصنوع ، وقد كان الأب إذا لم يكن الابن .

وقال بطرس لتلميذيه : إن المسيح لعن آريوس فاحذرا أن تقبلا قوله ، فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب ، فقلت : يا سيدي ! من شق ثوبك ؟ فقال لي : آريوس فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة .

وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير أحد تلميذيه بتركا على الإسكندرية ، فأقام ستة أشهر ومات ، ولما جرى على آريوس ما جرى ، أظهر أنه رجع عن مقالته ، فقبله هذا البترك وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا .

ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صب الله عليه الهلاك فهلك بشر هلكة .

ثم قام بعده قيصران :

( أحدهما ) ملك الشام وأرض الروم وبعض الشرق .

( والآخر ) رومية وما جاورها ، وكانا كالسباع الضارية على النصارى ، فعلا بهم من القتل والسبي والجلاء ما لم يفعله بهم ملك قبلهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية