هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال في التوراة في السفر الخامس : أقبل الله من سيناء ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، ومعه ربوات الأطهار عن يمينه ، وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة : نبوة موسى ، ونبوة عيسى ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

فمجيئه من سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى ونبأه عليه إخبار عن نبوته .

وتجليه من ساعير هو مظهر عيسى المسيح من بيت المقدس ، وساعير : قرية معروفة هناك إلى اليوم ، وهذه بشارة بنبوة المسيح .

وفاران : هي مكة ، وشبه سبحانه وتعالى نبوة موسى بمجيء الصبح ، وفلقه ، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ، ونبوة خاتم النبيين بعدهما صلى الله عليه وسلم باستعلان الشمس [ ص: 320 ] وظهورها وظهور ضوئها في الآفاق ، ووقع الأمر كما أخبر به سواء ، فإن الله صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته ، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح ، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة التين والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين

فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها ، والتين والزيتون : المراد به منبتهما وأرضهما ، وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح ، وطور سينين الجبل الذي كلم الله عليه موسى فهو مظهر نبوته ، و وهذا البلد الأمين : مكة ، حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء .

قالت اليهود : فاران هي أرض الشام وليست أرض الحجاز ، وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم ، وعندهم في التوراة : أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران ، هكذا نطقت التوراة ولفظها ( وأقام إسماعيل في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر ) .

ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل إسماعيل ، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران ، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل ، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملئوا السهل والجبل ، كما سنذكره إن شاء الله .

ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا أن هذه هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت بفاران على أشرف ولد إسماعيل حتى ملأ الأرض ضياء ونورا ، وملأ أتباعه السهل والجبل ، [ ص: 321 ] ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادمو الرأي والفطانة أن ينقسموا إلى جاهل بذلك وجاحد مكابر معاند .

ولفظ التوراة فيهم : أنهم الشعب عادم الرأي ، وليس فيهم فطانة .

ويقال لهؤلاء المكابرين : أي نبوة خرجت من الشام فاستعلنت استعلان ضياء الشمس ، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها ؟ ! وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر ويقول بل طلعت من المغرب ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية