هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 362 ] قوله في كتاب أشعيا أيضا : عبدي وخيرتي ورضى نفسي ، أفيض عليه روحي ، أو قال : أنزل عليه روحي ، فينظر في الأمم عدلي ، ويوصي الأمم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته ، يفتح العيون العمي والعور ، ويسمع الآذان الصم ، ويحيي القلوب ، وما أعطيه لا أعطيه غيره ، لا يضعف ولا يغلب ، ولا يميل إلى اللهو ، ولا يسمع في الأسواق صوته ، ركن للمتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفأ ، ولا يخصم ، حتى تثبت في الأرض حجتي ، وتنقطع به المعذرة .

فمن وجد بهذا الوصف غير محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله ؟ فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها ، وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة ، ولو بحثوا عن غيره لم يجدوا إلى ذلك سبيلا .

فقوله عبدي مطابق لقوله في القرآن وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ، وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وقوله وأنه لما قام عبد الله يدعوه ، وقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله . وقوله : وخيرتي ورضى نفسي ، مطابق [ ص: 363 ] لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم .

وقوله : لا يضحك ، مطابق لوصفة الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى تبدو لهواته إنما كان يتبسم تبسما، وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ، ونقصان العقل ، بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق ، وكمال الإدراك . وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه الضحوك القتال ، فالمراد به أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه عن القتل إذا كان حبا لله وحقا له ، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه ، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال ، فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق ، وكثرته من الخفة والطيش ، والاعتدال بين ذلك غير منكر .

وقوله : أنزل عليه روحي ، مطابق لقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، وقوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ، فسمى الوحي روحا ، لأن حياة القلوب والأرواح به ، كما أن حياة الأبدان بالأرواح .

وقوله : فينظر في الأمم عدلي ، مطابق لقوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، وقوله عن أهل الكتاب : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ ص: 364 ] وقوله : يوصى الأمم بالوصايا ، مطابق لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .

وقوله في سورة الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا إلى قوله ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ، ثم قال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إلى قوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ، ثم قال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون .

ووصاياه صلى الله عليه وسلم هي عهوده إلى أمته بتقوى الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له ، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق ، والإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ولقائه .

وقوله : ولا يسمع صوته ، يعني ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له علم ولا وقار . وقوله : يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب ، إشارة إلى أن تكميل مراتب العلم والهدى الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع ، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها ، فإن الهدى يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة ، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسل ، ففتح الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الأعين العمي ، فأبصرت بالله ، والآذان الصم ، فسمعت عن الله ، والقلوب الغلف ، فعقلت عن الله ، فانقادت لطاعته عقلا وقولا وعملا ، وسلكت سبل مرضاته ذللا .

[ ص: 365 ] وقوله : ما أعطيه فلا أعطي غيره ، مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي .

ولقول الملائكة لما ضربوا له المثل : لقد أعطي هذا النبي ما لم يعط نبي قبله ، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان .

فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة ، وختم به ديوان الأنبياء ، ونزل عليه القرآن الذي لم ينزل من السماء كتاب يشبهه ، ولا يقاربه ، وأنزل على قلبه محفوظا متلوا ، وضمن له حفظه إلى أن يأتي الله بأمره ، وأوتي جوامع الكلم ، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر ، وجعلت صفوف أمته في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء ، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا ، وأسري به إلى أن جاوز السماوات السبع ورأى ما لم يره بشر قبله ، ورفع على سائر النبيين ، وجعل سيد ولد آدم ، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، واتبعه على دينه أتباع أكثر من أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح ، فأمته ثلثا أهل الجنة ، وخصه بالوسيلة ، وهي أعلى درجة في الجنة ، وبالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأعز الله به الحق وأهله عزا لم يعزه بأحد من قبله ، وأذل به الباطل وحزبه ذلا لم يحصل بأحد قبله ، وآتاه من العلم والشجاعة والسماحة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية [ ص: 366 ] والمعارف الإلهية ما لم يؤته نبي قبله ، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر حسنات مثلها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وصلى الله عليه هو وجميع ملائكته ، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما ، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه ، كما في الخطبة والتشهد والأذان ، فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة حتى يشهد أنه عبده ورسوله ، ولم يجعل معه أمرا يطاع ، لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها ، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه ، واقتدى به ، وجعل لواء الحمد بيده ، فآدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة ، وجعله أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول من يدخلها ، فلا يدخلها أحد من الأولين والآخرين إلا بشفاعته صلى الله عليه وسلم ، وأعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله تعالى ، والعزيمة على تنفيذ أوامره ، والرضا عنه ، والشكر له ، والتنوع في مرضاته ، وطاعته ظاهرا وباطنا ، سرا وعلانية ، في نفسه وفي الخلق ، ما لم يعطه نبي غيره . ومن عرف أحوال العالم ، وسير الأنبياء وأممهم ، تبين له أن الأمر فوق ذلك ، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق كلهم من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبدا .

وقوله : ولا يضعف ولا يغلب ، هكذا حال صلى الله عليه وسلم ، ما ضعف في ذات الله قط ، ولا في حالة انفراده وقلة أتباعه ، وكثرة أعدائه ، واجتماع أهل الأرض على حربه ، بل هو صلى الله عليه وسلم أقوى الخلق وأثبتهم جأشا ، وأشجعهم قلبا ، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا ، وما ضعف ولا استكان ، بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح ، حتى أرعب منه العدو ، وكر خاسئا على كثرة عددهم وعددهم وضعف أصحابه ، وكذلك يوم حنين ، أفرد عن [ ص: 367 ] الناس في نفر يسير دون العشرة ، والعدو قد أحاطوا به وهم ألوف مؤلفة ، فجعل يثب في العدو ويقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ويتقدم إليهم ، وأخذ حفنة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين . ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ، ولا أثبت ولا أصبر ، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا احمر البأس ، واشتد الحرب ، اتقوا به ، وتترسوا به ، فكان أقربهم إلى العدو ، وكان أشجعهم هو الذي يكون قريبا منه .

وقوله : ولا يميل إلى اللهو ، هكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم ، أبعد الناس من اللهو واللعب ، بل أمره كله جد وحزم وعزم ، مجلسه مجلس حياء وكرم ، وعلم وإيمان ، ووقار وسكينة .

وقوله : ولا يسمع في الأسواق صوته ، أي ليس من الصخابين بالأسواق في طلب الدنيا ، ولا الحرص عليها ، كحال أهلها الطالبين لها .

وقوله : ركن للمتواضعين ، فإن من تأمل سيرته وجده أعظم الناس تواضعا للصغير والكبير ، والمسكين والأرملة ، والحر والعبد ، يجلس معهم على التراب ، ويجيب دعوتهم ، ويسمع كلامهم ، وينطلق مع أحدهم في حاجته ، ويخصف لأحدهم نعله ، ويخيط له ثوبه ، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به .

وقوله : وهو نور الله الذي لا يطفأ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي وينقطع به العذر ، وهذا مطابق لحاله وأمره لما شهد به القرآن في غير موضع ، كقوله : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون وقوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وقوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، [ ص: 368 ] وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ، ونظائره في القرآن كثيرة .

وقوله : حتى ينقطع به العذر . . . وتثبت به الحجة ، مطابق لقوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقوله تعالى : والمرسلات عرفا إلى قوله : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ، وقوله تعالى : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين .

وقوله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة .

فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل ، وبهم انقطعت المعذرة ، فلا يمكن من بلغته دعوتهم أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه .

( فصل ) : وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو : أخبرنا ببعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فقال : إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ، [ ص: 369 ] ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ، فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا : بأن يقولوا : لا إله إلا الله .

وقوله : إن هذا في التوراة ، لا يريد به التوراة المعنية التي هي كتاب موسى فقط ، فإن لفظ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن يراد به الكتب المعنية تارة ، ويراد به الجنس تارة ، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور ، وبلفظ التوراة عن الإنجيل وعن القرآن أيضا .

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : خفف على داود القرآن فكان ما بين أن يسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن والمراد به قرآنه ، وهو الزبور .

وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة : نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم ، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى .

وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أناجيلهم في صدورهم . فقوله : أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إما أن يريد التوراة المعينة ، وليست المبدلة التي بأيدي اليهود لعنهم الله ، أو جنس الكتب المتقدمة ، وعلى التقديرين فأجابه عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة التي هي أتم من الكتاب المعين ، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة فقط ، بل هو في كتاب أشعيا كما حكيناه عنه . وقد ترجموه أيضا بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة : عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي ، أنزل عليه وحيي ، فيظهر في الأمم عدلي ، ويوصيهم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته في الأسواق ، يفتح العيون العور ، والآذان الصم ، ويحيي القلوب الغلف ، وما أعطيه لا أعطيه أحدا ، [ ص: 370 ] يحمد الله حمدا جديدا يأتي من أقطار الأرض ، وتفرح البرية وسكانها ، يهللون بالله على كل شرف ، ويكبرونه على كل رابية ، لا يضعف ، ولا يغلب ، ولا يميل إلى الهوى ، مشفح ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة ، بل يقوي الصديقين ، وهو ركن المتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفأ ، أثر سلطانه على كتفيه .

وقوله : مشفح ، بالشين المعجمة والفاء المشددة بوزن مكرم ، وهي لفظة عبرانية ، مطابقة لاسم محمد معنى ولفظا ، مقاربا لمطابقة ( مؤد مؤد ) بل أشد مطابقة ، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانيين ، فإنها بين الحاء والهاء ، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة ، ولا يتريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد .

قال أبو محمد بن قتيبة : مشفح محمد بغير شك ، واعتباره أنهم يقولون ( شفحا لاها ) ، إذا أرادوا يقولوا الحمد لله ، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك .

وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم : إن " مئد مئد " هي محمد ، وهي بكسر الميم والهمزة ، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة ، قال : ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد ، وإن سكتنا عن ذلك ، وضربنا عن هذا صفحا فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه صلى الله عليه وسلم ؟ ! ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه ، رآه الناس عيانا مثل زر الحجلة ؟ ! ! فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وبعد البصيرة إلا العمى ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم ، يقرءونها في كنائسهم ، ويدرسونها في مجالسهم ، لا ينكرها منهم عالم ، ولا يأباها جاهل ، ولكنهم يقولون : لم يظهر بعد ، وسيظهر ونتبعه .

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به وجحدوا نبوته ، وجحدوا ما كانوا يقولونه [ ص: 371 ] فيه ، فقال معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ، وداود بن سلمة : يا معشر اليهود : اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونحن أهل شرك ، وتخبرونا أنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو الذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

وقال أبو العالية : كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا ، حتى يعذب المشركين ويقتلهم ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

وقال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن رجال من قومه ، قالوا : ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ، ما كنا نسمع من رجال يهود ، كنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس عندنا ، فكانت لا تزال بيننا [ ص: 372 ] وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون ، قالوا لنا : قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله ، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به ، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية