هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وقد جرت لي مناظرة مع أكبر من تشير إليه اليهود بالعلم والرئاسة ، فقلت له في أثناء الكلام : إنهم بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد شتمتم الله أعظم شتيمة ، فعجب من ذلك ، وقال : مثلك يقول هذا الكلام ! فقلت له : اسمع الآن تقريره ، إذا قلتم : إن محمدا ملك ظالم قهر الناس بسيفه ، وليس برسول من عند الله ، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة ، ويقول : أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحي إلي كذا ، ولم يكن من ذلك شيء . ويقول : إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم ، وغنيمة أموالهم ، وقتل رجالهم ، ولم يكن من ذلك شيء ، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ، فلا يخلو إما أن تقولوا : أن الله سبحانه وتعالى كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه ، أو تقولوا : إنه خفي عنه ولم يعلم به ، فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل ، وكان من علم ذلك أعلم منه ، وإن قلتم بل كان كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه ، فلا يخلو : إما أن يكون قادرا على تغييره ، والأخذ على يديه ومنعه من ذلك ، أو لا ، فإن لم يكن قادرا ، فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية ، وإن كان قادرا ، وهو مع ذلك يعزه وينصره ويوده ، ويعليه ويعلي كلمته ، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ، ولا يقصده أحد بسوء إلا ظفر به ، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له ، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء ، فضلا عن رب الأرض والسماء ، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وتأييده بكلامه ، وهذه عندكم شهادة زور وكذب ؟

[ ص: 385 ] فلما سمع ذلك ، قال : معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر ، بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد .

قلت : فما لك لا تدخل في دينه ؟

قال : إنما بعث للأميين الذين لا كتاب لهم ، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه .

قلت له : غلبت كل الغلب ، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق ، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم ، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب ، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به ، فأمسك ولم يحر جوابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية