هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
( فصل ) : ومن ذلك أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي ، ونحن نذكر بعضها ، قال [ ص: 401 ] الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب ، عن مصعب بن عثمان ، قال : كان أمية قد نظر في الكتب وقرأها ، ولبس المسوح تعبدا ، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية ، وحرم الخمر والأوثان ، والتمس الدين ، وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب ، فكان يرجو أن يكون هو ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قيل له : هذا الذي كنت تبشر به ، وتقول فيه ، فحسده عدو الله ، وقال : أنا كنت أرجو أن أكون هو ، فأنزل الله عز وجل : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .

وهو الذي يقول : كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور .

قال الزبير : وحدثني عمر بن أبي بكر الموصلي ، قال : كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ، ويطمع في النبوة ، فخرج إلى الشام فمر بكنيسة ، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم ، فقال أمية : إن لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني ، فدخل الكنيسة ، ثم خرج إليهم كاسفا متغيرا فرمى بنفسه ، فأقاموا عليه حين سري عنه ثم مضوا فقضوا حوائجهم ، ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنيسة ، قال : انتظروني ودخل الكنيسة فأبطأ ثم خرج إليهم أسوأ من حاله الأول ، فقال له أبو سفيان بن حرب : قد شققت علي رفقتك ، فقال : خلوني فإني أرتاد لنفسي وأنظر لمعادي ، وإن ههنا راهبا عالما أخبرني أنه سيكون بعد عيسى ست رجفات وقد مضت منها خمس وبقيت واحدة ، فخرجت وأنا أطمع أن أكون نبيا ، وأخاف أن يخطئني فأصابني ما رأيت ، فلما رجعت أتيته فقال : قد كانت الرجفة وبعث نبي من العرب ، فأيست من النبوة ، فأصابني ما رأيت ، إذ فاتني ما كنت أطمع فيه .

[ ص: 402 ] قال : وقال الزهري : خرج أمية في سفر ، فنزلوا منزلا ، فأم أمية وجها ، وصعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى إليها ، فإذا بشيخ جالس ، فقال لأمية حين رآه : إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك ؟ قال : من شقي الأيسر ، قال : فأي الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها ؟ قال : السواد ، قال : كدت تكون نبي العرب ، ولست هو أو ولست به ، هذا خاطر من الجن وليس بملك وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه الملك من شقه الأيمن ، وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض .

قال الزهري : وأتى أمية أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر عمي الخبر ، فهل أحسست شيئا ؟ قال : لا والله ، قال : قد وجدته يخرج في هذا العام .

وقال عمر بن شيبة : سمعت خالد بن يزيد يقول : إن أمية وأبا سفيان بن حرب صحباني في تجارة إلى الشام ، فذكر نحو الحديث الأول ، وزاد فيه : فخرج من عند الراهب وهو يعتل ، فقال له أبو سفيان : إن بك لشرا فما قصتك ؟ قال : خير ، أخبرني عن عتبة بن ربيعة : كم سنه ؟ فذكر سنا ، قال أخبرني عن ماله ، فذكر مالا ، فقال له : وضعته ، قال أبو سفيان : بل رفعته ، فقال : إن صاحب هذا الاسم ليس بشيخ ، ولا بذي [ ص: 403 ] مال ، قال : وكان الراهب أتاه وأخبره ، فقال : إن صاحب هذا الأمر لرجل من قريش .

قال الزبير : وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي ، قال حدثني رجل من أهل الكوفة ، قال : كان أمية نائما فجاءه طائران ، فوقع أحدهما على باب البيت ، ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر ، فقال له الطائر الآخر : أوعى ؟ قال : نعم ، أزكى ؟ قال : أبى .

وقال الزهري : دخل يوما أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهيئ أدما لها فأدركه النوم ، فنام على سرير في ناحية البيت ، فانشق جانب من السقف في البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه ، فشق الواقع صدره ، فأخرج قلبه فشقه ، ثم قال الطائر الأخر للذي على صدره : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ ، قال : أبى ، فرد قلبه في موضعه ، ثم مضى ، فأتبعهما أمية طرفه ، وقال :

لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما .     لا برئ فاعتذر
ولا ذا عشيرة فأنتصر

، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعهما أمية بصره ، فقال :

لبيكما لبيكما     ها أنا ذا لديكما
، لا مال لي يغنيني     ولا عشيرة تحميني

.

فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، فنهض فأتبعهما أمية بصره وقال :

لبيكما [ ص: 404 ] لبيكما     ها أنا ذا لديكما
، محفوف بالنعم     محفوظ بالدين

، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه فأخرج قلبه فشقه ، فقال الأعلى : أوعى ، قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعهما طرفه فقال : لبيكما لبيكما     ها أنا ذا لديكما
.


إن تغفر اللهم تغفر جما     وأي عبد لك لا ألما

ثم انطبق الشق وجلس أمية يمسح صدره ، فقلت : يا أخي ! هل تجد شيئا ؟ قال : لا ولكني أجد حرا في صدري ، ثم أنشأ يقول :


ليتني كنت قبل ما قد بدا لي     في تلال الجبال أرعى الوعولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر     غولة الدهر إن للدهر غولا



التالي السابق


الخدمات العلمية