هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وأما الإنجيل فهو أربعة أناجيل ، أخذت عن أربعة نفر ، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلا ، واثنان رأياه واجتمعا به وهما متى ويوحنا ، وكل منهم يزيد وينقص [ ص: 427 ] ويخالف إنجيله لإنجيل أصحابه في أشياء ، وفيها ذكر القول ونقيضه . كما فيه أنه قال : إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة ، ولكن غيري يشهد لي .

وفي موضع آخر منه : ( إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئت وإلى أين أذهب ) . وفيه : أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال : ( قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول ؟ يا أبتاه سلمني من هذا الوقت ) .

وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما وقال : ( يا إلهي ! لم أسلمتني ) ، فكيف يجمع هذا مع قولكم : إنه هو الذي ( أسلم ) نفسه إلى اليهود ، ليصلبوه ويقتلوه رحمة منه بعباده ، حتى فداهم بنفسه من الخطايا ، وأخرج بذلك آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس ، وكيف يجزع إله العالم بذلك ؟ . وكيف يسأل السلامة منه ، وهو الذي اختاره ورضيه ؟ ! وكيف يشتد صياحه ويقول : ( يا إلهي ، لم أسلمتني ) وهو الذي أسلم نفسه ؟ ! وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه ، وإنزاله صاعقة على الصليب وأهله أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود ؟ !

وفيه أيضا أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهانا أنه المسيح ، فقال : تهدمون هذا البيت [ ص: 428 ] - يعني بيت المقدس - وأبنيه لكم في ثلاثة أيام ، فقالوا له : بيت مبني في ست وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام .

ثم ذكرتم في الإنجيل أيضا : أنه لما ظفرت به اليهود وحمل إلى بلاط عامل قيصر واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه وقالا : ( سمعناه يقول : أنا قادر على بناء بيت المقدس في ثلاثة أيام ) ( فكيف ) يدعي أن تلك معجزته ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور ؟ .

وفيه أيضا للوقا : أن المسيح قال لرجلين من تلامذته : اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما ، فإذا دخلتماه فستجدان ( فلوا ) مربوطا لم يركبه أحد فحلاه وأقبلا به إلي . قال : وفي إنجيل متى في هذه القصة أنها كانت حمارة متعبة .

وفيه أنه قال : ( ( لا تحسبوا أني قدمت لأصلح بين أهل الأرض ، لم آت لصلاحهم ، لكن لألقي المحاربة بينهم ، إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه ، والبنت وأمها ، حتى يصير أعداء المرء أهل بيته ) ) . ثم فيه أيضا : ( ( إنما قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا ، وأصلح بين الناس ) ) .

وأنه قال : ( ( من لطم خدك الأيمن فانصب له الأخرى ) ) .

وفيه أيضا أنه قال : [ ص: 429 ] طوبى لك يا شمعون ( رأس الجماعة ) ، وأنا أقول إنك الحجر ، وعلى هذا الحجر تبني بيعتي ، وكل ما أحللته في الأرض يكون محللا في السماء ، وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء ، ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له : اذهب عني يا شيطان ولا تعارض ، فإنك جاهل ، فكيف يكون شيطان جاهل مطاع في السماوات . وفي الإنجيل نص أنه ، ( ( لم تلد النساء مثل يحيى ) )

هذا في إنجيل متى ، وفي إنجيل يوحنا أن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره ( من أنت ) أهو المسيح ؟ قال : لا ، قالوا : أتراك إلياس ؟ قال : لا ، قالوا : أنت النبي ؟ قال : لا ، قالوا : أخبرنا من أنت ؟ قال : أنا صوت مناد في المفاوز ، ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون مخبرا بالكذب .

ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف ، ثم إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا ، ثم نسبه لوقا أيضا في إنجيله إلى يوسف ، وعد منه إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا . فبينا هو إله تام إذ صيروه ابن الإله ثم جعلوه ابن يوسف النجار .

والمقصود أن هذا الاضطراب في الإنجيل يشهد بأن التغيير وقع فيه قطعا ، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله ، بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله ، وأنت إذا اعتبرت نسخه ، ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود والسامرة [ ص: 430 ] والنصارى رأيتها مختلفة اختلافا يقطع من وقف عليه أنه من جهة التغيير والتبديل .

التالي السابق


الخدمات العلمية