هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال السائل :

فإن قلتم : إن عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم ، فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين أسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا ؟ والجواب من وجوه :

[ ص: 433 ] أحدها : أن شواهد النبوة وآيتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي وصفته ، وشواهدها متنوعة متعددة جدا ، ونعته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها .

وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والأخبار التي في كتبكم ، وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوها بل أسلموا للشواهد التي عاينوها ، والآيات التي شاهدوها ، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية وعاضدة من باب تقوية البنية ، وقد تم النصاب بدونها . فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد ، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها ، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه ومخرجه ، فلما عاينوه وأبصروه عرفوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه ، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم ، وقالوا : ليس هو الذي كنا نعدهم به .

والعلم بنبوة محمد والمسيح وموسى لا يتوقف على العلم بأن من قبلهم أخبرهم وبشر بنبوتهم ، بل طرق العلم بها متعددة ، فإذا عرفت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بطريق من الطرق ثبتت نبوته ووجب اتباعه ، وإن لم يعلم أن من قبله بشر به . وإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين ، فإما أن يكون تبشير من قبله به لازما لنبوته ، وإما أن لا يكون لازما ، فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه ولا يتوقف تصديق النبي عليه ، بل يجب تصديقه بدونه ، وإن كان لازما علم قطعا أنه قد وقع ، وعدم نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه ، إذ لا يلزم من وجود الشيء نقله العام ولا الخاص ، وليس كل ما أخبر به موسى والمسيح [ ص: 434 ] وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا ، وهذا مما علم بالاضطراد . فلو قدر أن البشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم ليست في الكتب الموجودة بأيديكم ، لم يلزم أن لا يكون غيره بشر به ، ولم ينفك ، ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة المتداولة بينكم ، فلم تزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم ، فضلا عن جميع عامتهم ، ويمكن أنه كان في بعضها فأزيل منه وبدل ، ونسخت النسخ من هذه التي قد بدلت واشتهرت ، بحيث لا يعرف غيرها ، واختفى أمر تلك النسخ الأولى ، وهذا كله ممكن ، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته ، هذا كله على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلا . ونحن قد ذكرنا من البشارات به في كتبهم ما لا يمكن منهم جحده والمكابرة فيه ، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم .

الوجه الثاني : أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود ووافقهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذكره ونعته وصفته في كتبهم ، وأنهم يعلمون أنه رسول الله ، وقد شهدوا بأنه أعلمهم وابن أعلمهم ، وخيرهم وابن خيرهم ، فلم يضر قولهم بعد ذلك أنه شرهم وابن شرهم ، وجاهلهم وابن جاهلهم ، كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم فسأله عنه فعدله وقال : إنه مقبول الشهادة عدل رضي لا يشهد إلا بالحق ، وشهادته جائزة علي ، فلما أدى الشهادة قال : إنه كاذب شاهد زور ، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته . وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به ، وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى ، وأذن بها على رءوس الملأ ، وصدقه مسلمو أهل الكتاب عليها ، وأخبروه على ما أخبر به ، فإنه كان أوسعهم علما في كتب الأنبياء ، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويزنونه بما يعرفون صحته فيعلمون صدقه ، وشهدوا [ ص: 435 ] له بأنه أصدق من يحكون لهم عن أهل الكتاب أو من أصدقهم .

ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام وقد وجدنا هذه البشارات في كتبكم ، وهي شاهدة لنا عليكم ، والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين .

وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يوافقكم ويقابلكم ويحاققكم عليها ، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون به عليكم من الكفر والتكذيب والجحد للحق ومعاداة الله ورسوله .

الوجه الثالث : أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة لكان في بهتكم وعنادكم وكذبكم ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلا ، فإذا جاءكم ما لا قبل لكم به قلتم ليس به ، ولم يأت بعد ، وقلتم : نحن لا نفارق حكم التوراة ، ولا نتبع نبي الأميين ، وقد صرح أسلافكم الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوه أنه رسول الله حقا ، وأنه المبشر به الموعود به على ألسنة الأنبياء المتقدمين ، وثم من قال له منهم في وجهه : نشهد أنك نبي ، فقال : ما يمنعكما من اتباعي ؟ ، قال : إنا نخاف أن تقتلنا يهود ، وقد قال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .

وقد جاءكم آيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر ، بحيث إن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر ، فما زادكم ذلك إلا نفورا وتكذيبا وإباء لقبول الحق ، فلو أنزل إليكم ملائكته وكلمكم الموتى وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب . وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من [ ص: 436 ] الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا ، وما زادكم ذلك إلا تكذيبا وعنادا ، فأسلافكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله ، حتى كأنكم تواصيتم بذلك ، أوصى به الأول للآخر واقتدى فيه الآخر بالأول ، قال تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ، وهبنا أنا ضربنا من أخبار الأنبياء المتقدمين به صفحا ، أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد لصحة نبوته ؟ ! وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفا يقطع المعذرة ، ويقيم الحجة ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية