هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الثاني : أن قولكم إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة من أعظم البهت وأفحش الكذب ، فإنهم وإن كانوا أميين قد بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة ، وفضلهم في العلم والهدى ، والمعارف الإلهية ، والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم ، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم ، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما ، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة ، والكم المتصل والكم المنفصل ، والنبض والقارورة والبول [ ص: 443 ] والقسطة ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان ، ووضع الآلات العجيبة ، وصناعة الكيمياء ، وعلم الفلاحة ، وعلم الهيئة وتسيير الكواكب ، وعلم الموسيقى والألحان ، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع ، وبين ظنون كاذبة ، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد ، فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في هذه العلوم فنعم إذا ، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .

وإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في العلم بالله وأسمائه وصفاته ، وأفعاله وأحكامه ، ودينه وشرعه وتفاصيله ، واليوم الآخر وتفاصيله ، وتفاصيل ما بعد الموت ، وعلم سعادة النفوس وشقاوتها ، وعلم صلاح القلوب وأمراضها ، فمن بهت نبيهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار ، لم ينكر له أن يبهت أصحابه ، ويجحد فضلهم ومعرفتهم ، وينكر ما خصهم الله به وميزهم على من قبلهم ، ومن هو كائن من بعدهم إلى يوم القيامة ، وقد كان الحواريون الذين نقلوا لأتباع المسيح معالم دينه ، وسيرة المسيح لا يعلمون شيئا من ذلك ، حتى من الله بالمسيح وشاهدوا ما خصه الله به من الآيات وأظهره على يده من المعجزات ، وكمل نفوسهم بالعلوم الإلهية والفضائل النفسانية ، فصاروا يفعلون ما نقله الجم الغفير إلينا عنهم من العجائب ، ويدونون العلوم ، كل ذلك ببركته ، وكذلك هؤلاء ، أعني الصحابة رضي الله عنهم ، وكيف يكونون عواما في ذلك وهم أذكى الناس فطرة ، وأزكاهم نفوسا ، هم يتلقونه غضا طريا ، ومحضا لم يشب عن نبيهم ، وهم أحرص الناس عليه ، وأشوقهم إليه ، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار ، والحضر والسفر ، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، [ ص: 444 ] وعلم ما كان من المبدأ ، وتخليق العالم ، وأحوال الأمم الماضية ، والأنبياء وسيرهم وأحوالهم مع أممهم ، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله ، وعددهم ، وعدد المرسلين منهم ، وذكر كتبهم وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم ، وما أكرم به أتباعهم ، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوا فيه ، وذكر اليوم الآخر وتفاصيل أحواله ، وذكر الجنة وتفاصيل نعيمها ، والنار وتفاصيل عذابها ، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه ، وذكر أشراط الساعة والإخبار بها مفصلا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال : وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به ، وفي موضع آخر منه : ويخبركم بالحوادث والغيوب ، وفي موضع آخر ويعلمكم كل شيء ، وفي موضع آخر : يحيي لكم الأسرار ويفسر لكم كل شيء وأجيئكم بالأمثال وهو يجيئكم بالتأويل ، وفي موضع آخر : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب . فمن هذا علمه بشهادة المسيح ، وأصحابه يتلقون ذلك جميعه عنه ، وهم أذكى الخلق وأحفظهم وأحرصهم ، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف ؟

ولقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح ، ثم صعد المنبر فخطبهم حتى حضرت الظهر ، ثم نزل وصلى ، وصعد فخطبهم حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى وصعد [ ص: 445 ] وخطبهم حتى حضرت المغرب ، فلم يدع شيئا إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به ، فكان أعلمهم أحفظهم . وخطبهم مرة أخرى فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم .

وقال يهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ! قال أجل . فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته ! ! .

وكيف يدعى في أصحاب نبينا أنهم وهذه العلوم الناقصة المبثوثة في الأمم على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة ، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة ، وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علما ، وبلغت فتاويه نحوا من ثلاثين سفرا ، وكان بحرا لا ينزف ، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما ، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في السنة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول القائل : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسير الماضين فكذلك ، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك ، فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك .

[ ص: 446 ] قال مجاهد : العلماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة في قوله تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

ولما حضر معاذا الموت قيل له : أوصنا ، قال : أجلسوني ، فأجلسوه فقال : إن الإيمان والعلم بمكانهما ، من اتبعهما وجدهما ، التمسوا العلم عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه عاشر عشرة في الجنة .

وقال أبو إسحاق السبيعي ، قال عبد الله : علماء الأرض ثلاثة ، رجل بالشام ، وآخر بالكوفة ، وآخر بالمدينة . فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة ، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء .

[ ص: 447 ] وقيل لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه : حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : عن أيهم ؟ قالوا : عن عبد الله بن مسعود ، قال قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفاه بذلك ، قالوا : فحدثنا عن حذيفة ، قال : أعلم أصحاب محمد بالمنافقين ، قالوا : فأبو ذر ؟ ، قال : كنيف ملئ علما ، قالوا : فعمار ؟ ، قال : مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر ، خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ، ليس للنار فيه نصيب ، قالوا : فأبو موسى ؟ ، قال : صبغ في العلم صبغة ، قالوا : فسلمان ؟ ، قال : علم العلم الأول والآخر ، بحر لا ينزح ، منا أهل البيت ، قالوا : فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين ؟ ، قال : إياها أردتم ، كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدئت .

وقال مسروق : شافهت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة ، إلى : علي ، وعبد الله ، وعمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي بن كعب ، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى علي ، وعبد الله .

وقال مسروق : جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا كالأخاذ ، الأخاذ يروي الراكب ، والأخاذ يروي الراكبين ، والأخاذ يروي العشرة ، لو نزل به أهل الأرض [ ص: 448 ] لأصدرهم ، وإن عبد الله من ذلك الأخاذ .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه ، حتى أرى الري يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر ، فقالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : العلم .

وقال عبد الله : إني لأحسب أن عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم . وقال عبد الله : لو أن علم عمر بن الخطاب وضع .

وقال حذيفة بن اليمان : كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر ، وقال الشعبي : قضاة هذه الأمة أربعة : عمر وعلي وزيد وأبو موسى . وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت رجلا قط أعلم بالله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله من عمر .

[ ص: 449 ] وقال علي : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء ، فقلت : إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث وليس لي علم بالقضاء ، قال فضرب في صدري وقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد .

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فقال لي : يا غلام هل من لبن ؟ ، قلت : نعم ، ولكني مؤتمن ، قال : فهل من شاة لم ينزو عليها الفحل ؟ ، قال فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء ، فشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : اقلص فقلص ، قال : فأتيته بعد هذا ، فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول ، فمسح رأسي ، وقال : يرحمك الله ، إنك عليم معلم .

وقال عقبة بن عامر : ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله ، فقال أبو موسى : إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ، ويدخل حين لا ندخل .

وقال مسروق : قال عبد الله : ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، ولو أني أعلم [ ص: 450 ] أن رجلا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا لأتيته ، وقال عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل : حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا قال : هو عبد الله بن مسعود .

وقيل لمسروق : كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض .

وقال أبو موسى : ما أشكل علينا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا منه علما .

وقال شهر بن حوشب : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له .

وقال علي بن أبي طالب : أبو ذر وعى علما ، ثم وكى عليه فلم يخرج منه شيء حتى قبض .

وقال مسروق : قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم ، [ ص: 451 ] ولما بلغ أبا الدرداء موت عبد الله بن مسعود قال : أما إنه لم يخلق بعده مثله .

وقال أبو الدرداء : إن من الناس من أوتي علما ولم يؤت حلما ، وشداد بن أوس ممن أوتي علما وحلما .

ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره وقال : هكذا يذهب العلم .

وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وقال : اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب ، وقال محمد بن الحنيفية لما مات ابن عباس : لقد مات رباني هذه الأمة .

وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود : ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عباس . [ ص: 452 ] وكان عمر بن الخطاب يقول له : قد طرأت علينا عضل أقضيته أنت لها ولأمثالها ثم يقول عبد الله : وعمر عمر في جده وحسن نظره للمسلمين .

وقال عطاء بن أبي رباح : ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس : أكثر فقها وأعظم جفنة ، إن أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كلهم في واد واسع .

وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيده الله علما وفقها .

وقال عبد الله بن مسعود : لو أن ابن عباس بلغ أسناننا ما عشره منا رجل . أي ما بلغ عشره .

وقال ابن عباس : ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه ، وقيل له : أنى أصبت هذا العلم ؟ قال : بلسان سئول ، وقلب عقول ، وكان يسمى البحر من كثرة علمه .

[ ص: 453 ] وقال طاوس : أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ابن عباس شيئا خالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم .

وقال الأعمش : كان ابن عباس إذا رأيته قلت : أجمل الناس ، فإذا تكلم قلت : أفصح الناس ، فإذا حدث قلت : أعلم الناس .

وقال مجاهد : كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور . وقال ابن سيرين : كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون .

قال ابن عون : فكأنه رآني أنكرت ذلك ، قال : فقال : أليس أبو بكر كان يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس ، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلمه الناس ؟ .

وقال عبد الله بن مسعود : لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة [ ص: 454 ] لرجح بهم علم عمر .

قال الأعمش : فذكروا ذلك لإبراهيم ، فقال : قال : عبد الله ؟ إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم .

وقال سعيد بن المسيب : ما أعلم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب .

وقال الشعبي : قضاة الناس أربعة : عمر وعلي وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري . وكانت عائشة رضي الله عنها مقدمة في العلم بالفرائض والسنن والأحكام والحلال والحرام والتفسير .

قال عروة بن الزبير : ما جالست أحدا قط أعلم بقضاء ولا بحديث الجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب ، من عائشة رضي الله عنها .

وقال عطاء : كانت عائشة أعلم الناس ، وأفقه الناس .

وقال البخاري في تاريخه : روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل ما بين صاحب [ ص: 455 ] وتابع .

وقال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه وبعثه لرسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلوا وزراء نبيه .

وقال ابن عباس في قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال الشافعي : وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن ، وسبق لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم .

وقال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم ولم نخرج عنه .

وقال ابن القاسم : سمعت مالكا ، يقول : لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام ، نظر إليهم رجل من أهل الكتاب ، فقال : ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء .

[ ص: 456 ] وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأنهم خير القرون على الإطلاق .

كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى بأنهم خير الأمم على الإطلاق . وعلماؤهم وتلاميذهم الذين ملئوا الأرض علما ، فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم وهلم جرا .

وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقا وغربا ، تلاميذ تلاميذهم وخيار ما عندهم ما كان من الصحابة ، وخيار الفقه ما كان منهم ، وأوضح التفسير ما أخذ عنهم .

وأما كلامهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره ففي أعلى المراتب ، فمن وقف عليه وعرف ما قالته الأنبياء عرف أنه مشتق منه مترجم عنه ، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم ومأخوذ عنهم ، وهؤلاء تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض . فهذا مالك جمعت فتاويه عدة أسفار ، وأبو حنيفة كذلك ، وهذه تصانيف الشافعي رضي الله عنه تقارب المائة ، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سفر ، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفرا ، وغالب تصانيفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ، وهذا علامتهم المتأخر شيخ الإسلام ابن تيمية جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلدا ورأيتها في الديار المصرية ، وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله ، كلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم والفضل ، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم .

[ ص: 457 ] وفي الثقفيات حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري ، عن أبيه : أن كعبا رأى حبر اليهود يبكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال كعب : أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال أنشدك الله : هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون أعور الدجال ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب ، إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا : نفعله إن شاء الله ، فاجعلهم أمتي . قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ قال الحبر : نعم .

قال كعب : أنشدك الله أتجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب ، إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله ، وإذا هبط حمد الله ، الصعيد طهورهم ، والأرض لهم مسجدا ، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غرا محجلين من آثار الوضوء ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله هل تجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد أمة مرحومة [ ص: 458 ] يرثون الكتاب واصطفيتهم لنفسك فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله ، أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد مصاحفهم في صدورهم ، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل ، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات ، مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر . قال موسى : فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته ، قال : ليتني من أصحاب محمد ، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، وكتبنا له في الألواح الآية ، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .

قال : فرضي كل الرضا .

وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم وبعضها في نبوة أشعيا وبعضها في نبوة غيره . والتوراة أعم من التوراة المعينة ، وقد كان الله سبحانه وتعالى كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فلما كسرها رفع [ ص: 459 ] منها الكثير وبقي خير كثير ، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به ، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيء مما لا يعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد ، وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها ، في العلم الموروث عنه ، ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدا من أمته ، وسائر الناس منكر له وجاهل به .

وسمع كعب رجلا يقول : رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب فدعا الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته ، ورأيت لكل نبي نورين ولكل من اتبعه نورا يمشي به في الناس بين يديه ، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور ، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما .

فقال كعب : من حدثك هذا ؟ قال : رؤيا رأيتها في منامي ، قال : أنت رأيت هذا في منامك ؟ قال : نعم ، قال : والذي نفس كعب بيده إنها لصفة محمد وأمته وصفة الأنبياء وأممهم ، لكأنما قرأتها من كتاب الله .

وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه ، قيل له : يا روح الله ! هل بعد هذه الأمة أمة ؟ قال : نعم ، قيل : وأية أمة ؟ قال : أمة أحمد ، قيل : يا روح الله ! وما أمة أحمد ؟ قال : علماء حكماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل ، ويدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله .

وقال كعب : علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل .

وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله .

ثم نقول : وما يدريكم معاشر المثلثة وعباد الصلبان وأمة اللعنة والغضب بالفقه [ ص: 460 ] والعلم ومسمى هذا الاسم ، حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل ؟ وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم ومعدود في زمرتهم ؟ فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل الأسفار ، وطائفة علماؤهم يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله ، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه ، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلاح ، ومن سقف بيته زجاج ، وهو يراجم أصحاب القصور بالأحجار ، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق إنهم عوام .

فليهن أمة الغضب علم المشنا والتلمود وما فيهما من الكذب على الله وعلى كليمه موسى ، وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء كل وقت ، وليهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه ، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، ودلتهم على أنه يناجونه في صلاتهم بقولهم : يا إلهنا انتبه من رقدتك كم تنام ، ينخونه حتى ينتخي وينقذ دولتهم ، وليهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع [ ص: 461 ] شرائع الأنبياء ، وخالفوا فيها المسيح خلافا يتحققه علماؤهم في كل أمر كما سيمر بك ، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا ، مما كادت السماوات تنشق منه والأرض تنفطر والجبال تنهد لولا أن أمسكها الحكيم الصبور .

وعلومهم التي دلتهم على التثليث ، وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر .

ودلتكم على قول عالمكم أفريم " إن اليد التي جلبت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت ، وأن الشبر الذي ذرعت به السماوات هو الذي سمر على الخشبة ، وقول عالمكم عرنقورس : من لم يقل إن مريم والدة الإله فهو خارج عن ولاية الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية