صفحة جزء
[ ص: 143 ] " ذكر قول بخاري الغرب الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر إمام السنة في زمانه رحمه الله تعالى " : قال في كتاب التمهيد في شرح الحديث الثامن لابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ هذا الحديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته . وفيه دليل على أن الله جل وعلا في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة ، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش والدليل على صحة ما قال أهل الحق في ذلك قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وقوله : ( ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) وقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) وقوله تعالى : ( إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ) وقوله تبارك اسمه : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وقوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) وقوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) [ ص: 144 ] وقال : ( سبح اسم ربك الأعلى ) وهذا من العلو وكذلك قوله : ( العلي العظيم ) و ( الكبير المتعال ) و ( رفيع الدرجات ذو العرش ) و ( يخافون ربهم من فوقهم ) والجهمي يقول إنه أسفل وقال جل ذكره ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ) وقال لعيسى : ( إني متوفيك ورافعك إلي ) وقال : ( بل رفعه الله إليه ) وقال ( فالذين عند ربك يسبحون له ) وقال : ( ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه ) والعروج هو الصعود وأما قوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء ) فمعناه من على السماء يعني على العرش ، وقد تكون في بمعنى على ألا ترى إلى قوله تعالى : ( فسيحوا في الأرض ) أي : على الأرض وكذلك قوله تعالى : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) وهذا كله يعضده قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) . وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب ، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة ، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى : استولى فلا معنى له ; لأنه غير ظاهر في اللغة ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة والله تعالى لا يغالبه ولا يعلوه أحد ، [ ص: 145 ] وهو الواحد الصمد .

ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته ، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم ، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات ، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين ، والاستواء معلوم في اللغة مفهوم ، وهو : العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه ، قال أبو عبيدة في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) قال : علا ، قال : وتقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت . وقال غيره : استوى أي استقر ، واحتج بقوله تعالى : ( ولما بلغ أشده واستوى ) أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد . قال ابن عبد البر : والاستواء الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال : ( لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) وقال تعالى : ( واستوت على الجودي ) وقال تعالى : ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) .

وقال الشاعر :


فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة * وقد حلق النجم اليماني فاستوى



[ ص: 146 ] وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى . لأن النجم لا يستولي وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة قال : حدثني الخليل وحسبك بالخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا . . استووا . فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال . فقال لنا أعرابي إلى جنبه إنه أمركم أن ترفعوا ، فقال الخليل : هو من قول الله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) فصعدنا إليه . قال : وأما نزع من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) قال : استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان .

فالجواب : إن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما ونقلته مجهولون وضعفاء ، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد : فضعيفان ، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف ، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول فكيف يسوغ لهم الاحتجاج [ ص: 147 ] بمثل هذا من الحديث لو عقلوا وأنصفوا ، أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول : ( وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول إن إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا .

وقال الشاعر :


فسبحان من لا يقدر الخلق قدره *     ومن هو فوق العرش فرد موحد
مليك على عرش السماء مهيمن *     لعزته تعنوا الوجوه وتسجد

وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وفيه يقول في وصف الملائكة :


وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه *     يعظم ربا فوقه ويمجد

قال : فإن احتجوا بقوله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) وبقوله تعالى : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) وبقوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) الآية ، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى جده . قيل لهم : لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته ، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض ، وكذا قال أهل العلم بالتفسير [ ص: 148 ] وظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش فالاختلاف في ذلك ساقط وأسعد الناس به من ساعده الظاهر ، وأما قوله في الآية الأخرى : ( وفي الأرض إله ) فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض فتدبر هذا فإنه قاطع .

ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر ، أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى " أكثر من " حكايته لأنه اضطرار لم يوقعهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها أين الله ؟ فأشارت إلى السماء ثم قال لها من أنا ؟ قالت : " أنت " رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه قال وأما احتجاجهم بقوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية : هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله ، وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) قال هو على عرشه ، وعلمه معهم أينما كانوا . قال : وبلغني عن سفيان الثوري مثله [ ص: 149 ] قال سنيد وحدثنا حماد بن زيد عن عاصم ابن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم . ثم ساق من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام ، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على الماء والله على العرش ، ويعلم أعمالكم وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب الاستذكار .

التالي السابق


الخدمات العلمية