صفحة جزء
( حدثنا حميد بن مسعدة ، أخبرنا بشر بن المفضل أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( الجريري ) بضم الجيم ، وفتح الراء الأولى ، فتحتية ساكنة ، هو سعيد بن إياس مر ذكره ( عن عبد الرحمن بن بكرة ) البصري التابعي ، وهو أول مولود ولد في الإسلام في بصرة ، روى عنه الشيخان وغيرهما ( عن أبيه ) أبي بكرة نفيع بن الحارث صحابي مشهور بكنيته ، نزل الطائف حين نادى المسلمون من نزل من الحصار فهو حر من البكرة ، فسمي بها ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ) بهمزة استفهام ، ولا نافية ( أحدثكم ) وفي نسخة : ألا أخبركم ( بأكبر الكبائر ) أي بجنس معصية هي أكبر المعاصي الكبار ، فلا يرد ما قال العصام أن تعدد الكبائر مشكل ; لأن معناه كبيرة أكبر من جميع ما عداه من الكبائر ، وأجاب بأن الموصوف به إذا كان متعددا كان المعنى متعددا من الكبائر كل منه أكبر من جميع ما عدا ذلك المتعدد ، وقال الحنفي : ظاهر الحديث يدل على أن أكبر الكبائر متعدد ، وهذا بأن يقصد بالأكبر الزيادة على ما أضيف إليه ، لا الزيادة المطلقة كما بين في موضعه ، قال ميرك : قوله : " ألا أحدثكم " في بعض الروايات الصحيحة ، " ألا أخبركم " ، وفي بعض الطرق : " ألا أنبئكم " ، ومعنى الكل واحد ، ووقع في بعض الطرق الصحيحة : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا ، وإنما أعادها ثلاثا اهتماما بشأن الخبر المذكور ، وأنه أمر له شأن ، ومن قال : إنما المراد بقوله ثلاثا عدد الكبائر ، وهو حال ، فقد أبعد عن المرام في هذا المقام ، والله أعلم ، ثم قوله : بأكبر الكبائر ، وهو مفعول [ ص: 224 ] بالواسطة لأحدثكم ، والكبائر جمع كبيرة وهي ما توعد الشارع عليه بخصوصه ، بحد في الدنيا وبعذاب في العقبى ، كذا قاله جمع من العلماء ، وفي حديث مرفوع ضعيف ، الكبيرة كل ذنب أدخل صاحبه النار ، أي جعله مستحقا لدخوله إياها ; ولهذا هي عند ابن عباس ومن تبعه كالإسفراييني كل منهي عنه ، فليس عنده صغيرة ، نظرا لمن عصى ، وكأنهم جعلوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه من باب الإضافة البيانية ، وقال جماعة منهم الواحدي وغيره : حدها مبهم علينا ، كما أبهم علينا الاسم الأعظم ، وليلة القدر ، وساعة الجمعة ، ووقت إجابة الدعاء ليلا ، والصلاة الوسطى ، وحكمته هنا : الامتناع من كل معصية خوفا من الوقوع في الكبيرة ، قال ابن حجر : والصحيح بل الصواب أن من الذنوب كبائر وصغائر ، وأن للكبيرة حدا ، فقيل : هي ما فيه حد ، وقيل : ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب أو السنة ، وإن لم يكن فيه حد ، وهو الأصح ، وقيل : إنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ويؤيده ما ورد لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، وقد عدد الفقهاء منها جملا مستكثرة ، كقتل نفس ، وزنا ، ولواطة ، وشرب خمر ، وسرقة وقذف ، وشهادة زور ، وكتم شهادة ، ويمين غموس ، وغصب ما يقطع بسرقته ، وفرار من الكفار بلا عذر ، وربا وأخذ مال يتيم ، ورشوة وعقوق أصل ، وقطع رحم وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدا ، وإفطار في رمضان غدوا ، وبخس كيل أو وزن أو ذراع ، وتقديم مكتوبة على وقتها ، وتأخيرها عنه ، وترك زكاة ، وضرب مسلم أو ذمي عدوانا ، وسب صحابي وغيبة عالم أو حامل قرآن ، وسعاية عند ظالم ، ودياثة وقيادة وترك أمر بمعروف ونهي عن منكر من قادر ، وتعلم سحر أو تعليمه أو عمله ، ونسيان حرف من القرآن بعد البلوغ ، وإحراق حيوان بغير ضرورة ، ويأس من رحمة الله تعالى ، وأمن من مكره ، ونشوز زوجة ، وإباء حليلة من حليلها عدوا ، ونميمة ، وحكي أن الغيبة كبيرة مطلقا بالإجماع نعم تباح لأسباب مذكورة في كتب الفقه ، وحصر الصغائر متعذر ( قالوا : بلى يا رسول الله ) فائدة النداء مع عدم الاحتياج إليه الإشارة إلى عظم الإذعان لرسالته المصطفوية ، وما ينشأ عنها من بيان الشريعة ، واستجلاب ما عنده من الكمالات العلية ( قال : الإشراك بالله ) الإشراك جعل أحد شريكا لآخر ، والمراد هنا اتخاذ إله غير الله ، كذا قاله الحنفي ، والأظهر أن المراد به الكفر ، كما قاله ابن حجر ، قال ميرك : [ ص: 225 ] يحتمل أن يكون المراد مطلق الكفر ، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ، لا سيما في بلد العرب ، فذكره تنبيها على غيره ، ويحتمل أن يراد به خصوصه ، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك ، وهو التعطيل ; لأنه نفي مطلق ، والإشراك ثبات مقيد ، فيترجح الاحتمال الأول ( وعقوق الوالدين ) أي عصيانهما أو أحدهما ، وجمعهما لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق الآخر غالبا ، ويجر إليه ، كذا قاله ابن حجر ، والأظهر أن يقال : المراد عقوق كل من الوالدين ، وفي معناهما الأجداد ، ثم العقوق بضم العين المهملة مخالفة من حقه واجب مشتق من العق ، وهو القطع والمراد صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل ، قال تعالى : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إلا في شرك ومعصية ، قال تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ففي الآية تنبيه على أن عقوق الوالدين حرام ، ولو كانا كافرين ، وفي الحديث : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا ، واستحبابهما في المندوبات ، وفروض الكفايات كذلك ، ومنه تقديمهما عند معارضة الأمرين ، قال ابن حجر : قيل : ضابطه أن يعصيه في جائز ، وليس هذا الإطلاق بمرضي ، والذي آل إليه أمر أئمتنا أن ضابطه أن يفعل منه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين في العرف .

قلت : حاصله أن العقوق مخالفة توجب الغضب ، وأما ما دونه فمن الصغائر ، ويؤيده ما ورد : رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد ، رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو ، والبزار عن ابن عمرو ، لا شك أن بين الرضا والسخط حالا متوسطا ، فقوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) من باب المبالغة في الزجر عن المخالفة .

قيل : القتل والزنا أكبر من العقوق بل قيل لا خلاف أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتل نفس مسلمة بغير حق فلم حذفا ، وأجيب بأنه علم من أحاديث أخر على أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يراعي في مثل ذلك أحوال الحاضرين ، كقوله مرة : أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها ، وأخرى أفضل الأعمال الجهاد ، وأخرى أفضل الأعمال بر الوالدين ، ونحو ذلك ( قال ) أي أبو بكرة ( وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تنبيها على عظم إثم شهادة الزور ( وكان متكئا ) أي قبل الجلسة والجملة ، حال ، وهو يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا ، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه ، وعظم قبحه ، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بهما أكثر ، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم ، والعقوق يصرف عنه الطبع السليم ، والعقل القويم ، وأما الزور فالحوامل والبواعث عليه كثيرة ، كالعداوة والحسد وغيرهما ، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه ، وليس ذلك لتعظيمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعا ، بل لكون مفسدته متعدية إلى الشاهد وغيره أيضا ، بخلاف الإشراك فإن مفسدته قاصرة غالبا ، وقيل : خص شهادة الزور بذلك ; لأنها تشمل الكافر إذ هو شاهد زور ، وقيل : لأنه في المستحل وهو كافر ، والأوجه أن سبب ذلك أنه يترتب عليها الزنا والقتل وغيرهما ، فكانت أبلغ ضررا من هذه الحيثية ، فنبه على ذلك بجلوسه وتكريره ذلك فيها ، [ ص: 226 ] دون غيرها ، ويمكن أن يقال وجه إدخال العقوق بين الإشراك ، وبين قول الزور الذي من جملة أفراده كلمة الكفر ، هو أن العقوق قد يؤدي إلى الكفر على ما أخرج الدارقطني والبيهقي ، في شعب الإيمان ، وفي دلائل النبوة أيضا ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن هاهنا غلاما قد احتضر ، فيقال له : قل : لا إله إلا الله فلا يستطيع أن يقولها ، قال : أليس كان يقولها في حياته ، قالوا : بلى قال ، فما منعه منها عند موته ، فنهض النبي صلى الله عليه وسلم ، ونهضنا معه ، حتى أتى الغلام ، فقال : يا غلام قل : لا إله إلا الله ، قال : لا أستطيع أن أقولها ، قال : ولم ، قال : لعقوق والدتي ، قال : أهي حية ؟ قال : نعم ، قال : أرسلوا إليها ، فجاءته فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابنك هو ؟ قالت : نعم ، قال : أرأيت لو أن نارا أججت ، فقيل لك : إن لم تشفعي فيه قذفناه في هذه النار ، فقالت : إذا كنت أشفع له ، قال : فأشهدي الله ، وأشهدينا بأنك قد رضيت عنه ، فقالت : قد رضيت عن ابني ، قال : يا غلام قل : لا إله إلا الله ، فقال : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ، ذكره السيوطي في شرح الصدور .

قال الحنفي : وهذا يدل على أن الاتكاء وقع منه صلى الله عليه وسلم ، ولا يدل على التكأة ، فهذا الحديث أنسب لباب الاتكاء من باب التكأة ، وكذا الحال في الحديث الذي ذكره بعده ، ودفعه ابن حجر بأن الاتكاء مستلزم للتكأة ، فكأنها مذكورة ، انتهى .

وفيه من البحث ما لا يخفى ، وفي الحديث أن الاتكاء في الذكر ، وإفادة العلم بمحضر المستفيدين منه لا ينافي الأدب والكمال ، ذكره ابن حجر ، والأظهر أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأعصار والأماكن والأزمان ، ( قال ) أي النبي صلى الله عليه وسلم استئناف بيان ، فكان سائلا ، قال : ما فعل بعد ما جلس ، فقال : قال : ( وشهادة الزور ) عطف على ما سبق أي ، وأكبر الكبائر شهادة الزور ، والواو لمطلق الجمع ، فلا يرد أنها أعظم من العقوق ، وفي النهاية الزور بضم الزاي : الكذب والباطل والتهمة ، وقال الطبري : أصل الزور تحسين الشيء ، ووصفه بخلاف صفته ، حتى يخيل لمن سمعه بخلاف ما هو به ، وقيل للكذب : زور ; لأنه مائل عن جهته ( أو قول الزور ) وهو أعم مطلقا من شهادة الزور ، أو شك من الراوي ، ذكره الحنفي ، والأظهر أنه للتنويع .

وعند البخاري لا شك فيها ، وهي " ألا وقول الزور ، ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، فما زال يقولها حتى قلنا : ألا سكت " ، وكذا وقع في العمدة بالواو ، وقال ابن دقيق العيد : يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام ، لكن ينبغي أن يحمل على التأكيد ، ويجعل من باب العطف التفسيري ، فإنا لو حملنا القول على الإطلاق ، لزم أن يكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة ، وليس كذلك ، قال ميرك : ولا شك أن أعظم الكذب ومراتبه متفاوتة ، بحسب تفاوت مراتبه ، ومنه قوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا وقال غيره : يجوز أن يكون عطف الخاص على العام ; لأن كل شهادة زور قول زور من غير عكس ، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه .

قال القرطبي : شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من [ ص: 227 ] إتلاف نفس أو أخذ مال ، أو تحليل حرام ، أو تحريم حلال ، فلا شيء أعظم ضررا منه ، ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله ، ( قال ) أي أبو بكرة ( فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها ) أي هذه الكلمة أو الجملة ، وهي قوله : شهادة الزور ، أو قول الزور ، وأما قول ابن حجر : والضمير في يقولها هنا لقوله : ألا وما بعدها في رواية البخاري ، خلافا لمن وهم فيه ، ففي غاية من البعد ( حتى قلنا : ليته سكت ) أي تمنينا أنه سكت إشفاقا عليه ، وكراهية لما يزعجه كيلا يتألم صلى الله عليه وسلم ، وقيل : خوفا من أن يجري على لسانه ما يوجب نزول العذاب ، وفي الحديث بيان ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه ، والمحبة والشفقة عليه ، وفيه أن الواعظ والمفيد ينبغي له أن يتحرى التكرار والمبالغة ، وإتعاب النفس في الإفادة ، حتى يرحمه السامعون والمستفيدون .

التالي السابق


الخدمات العلمية