صفحة جزء
( حدثنا العباس بن محمد الدوري ) بضم أوله ( حدثنا يونس بن محمد حدثنا فليح ) بضم الفاء ففتح اللام ( بن سليمان ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن يعقوب بن أبي يعقوب ، عن أم المنذر ) يقال : اسمها سلمى بنت قيس بن عمرو الأنصارية ، من بني النجار ، ويقال : هي إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب المشكاة في أسمائه : هي بنت قيس الأنصارية ، ويقال : العدوية لها صحبة ورواية ( قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي ، ولنا دوال ) بفتح الدال المهملة وتنوين اللام المكسورة جمع دالية ، وهي العذق من النخلة ، يقطع ذا بسر ثم تعلق ، فإذا رطب يؤكل ، والواو فيه منقلبة عن الألف كذا في النهاية فقوله : ( معلقة ) بالرفع صفة مؤكدة لدوال .

وأما قول ميرك : الأظهر أنه صفة [ ص: 277 ] مخصصة لقولها دوال فخلاف الظاهر ، ( قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ) قال العصام : أي قائما وهو الملائم للمقام لكن الجزم به غير قائم ( وعلي معه يأكل ) أي قائما لقولها بعد فجلس ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي لعلي كما في نسخة ( مه ) بفتح الميم وسكون الهاء ، كلمة بنيت على السكون اسم فعل بمعنى الأمر أي اكفف ، ولا تأكل منه ( يا علي فإنك ناقه ) بكسر القاف بعده هاء ، اسم فاعل من نقه الشخص بفتح القاف وكسرها ، فيكون من حد سأل أو علم ، والمصدر النقهة ومعناه برئ من المرض ، وكان قريب العهد به ، ولم يرجع إليه كمال الصحة والقوة التي كانت موجودة فيه قبل المرض ، وهذا يؤيد قول من قال بالأحوال الثلاثة الصحة والمرض والنقاهة ، وهي حالة بين الحالتين الأولين ، كذا أفاده السيد أصيل الدين ذكره ميرك ، ( قالت : فجلس علي ) أي وترك أكل الرطب ( والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل ) قال التوربشتي : أي وحده أو مع رفقائه غير علي ( قالت : فجعلت لهم ) بصيغة الجمع أي طبخت لأضيافي ، وقع في بعض نسخ المصابيح فجعلت له بإفراد الضمير ، وجعله بعض شراحه راجعا إلى علي ، وبهذه الملاحظة قال الفاء في قوله فجعلت جواب شرط محذوف ، يعني إذا ترك علي كرم الله وجهه أكل الرطب ، جعلت له إلى آخره .

قال بعض المحققين : والصحيح رواية هذا الكتاب ، والله أعلم بالصواب ، ذكره ميرك لكن يوجد في بعض نسخ الشمائل له بصيغة الإفراد أيضا ، والأظهر أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه الأصل والمتبوع ، كما يدل عليه صيغة الجمع أي له أصالة ولغيره تبعا ، مع أن أقل الجمع قد يكون ما فوق الواحد ، ويؤيده أنه في نسخة لهما وما أبعد من قال أن الضمير في له لابنها ، قال الطيبي : هكذا في الأصول الثلاثة لأحمد والترمذي وابن ماجه ، وكذا في شرح السنة ، وأكثر نسخ المصابيح حين جعلوا الضمير في لهم مفردا ، ليرجع إلى علي رضي الله عنه ، وهو وهم منهم ; لأن الضمير يرجع إلى أهلها والضيفان ، انتهى . فالفاء للتعقيب أي بعد عرض أكل الرطب أو بعد فراغهم منه ، جعلت لهم ( سلقا ) بكسر فسكون ( شعيرا ) أي نفسه أو ماءه أو دقيقه والمعنى فطبخت وقدمت لهم ( فقال النبي ) وفي نسخة قال النبي : ( صلى الله عليه وسلم ) أي لعلي كما في نسخة ( يا علي من هذا ) أي : الطبيخ أو الطعام ( فأصب ) أمر من الإصابة ، والفاء جواب شرط مقدر أي إذا امتنعت من أكل الرطب ، وإذا حصل هذا فكل منه معنا ، وفي التعبير بأصب إشارة إلى أن أكله منه هو الصواب ، كما يفيده تقدير الجار أيضا ، فالمعنى فخصه بالإصابة ولا تتجاوز إلى أكل من البسر ، قال ابن حجر : أي أما من هذا فأصب ، والفاء جواب شرط محذوف ، وتقديم من هذا يوجب الحصر ، أي أصب من هذا لا من غيره ( فإن هذا ) وفي نسخة صحيحة فإنه ( أوفق لك ) أي من جميع الوجوه أو من [ ص: 278 ] سائر الأطعمة ولم يقل في " أوفق " منه ; ليكون إشكالا يستدعي جوابا ، كما فهم الشراح ، قال الحنفي : أنه لمجرد الزيادة ، وقال ميرك : الظاهر أن صيغة التفضيل هنا ورد لمجرد الموافقة ; لأن تحقيق المزية والفضل يتوقف على وجود الفضل في الطرف المقابل ، اللهم إلا أن يقال بطريق الإمكان ، فيتصور الزيادة أو بحسب الحكمة ، قال ابن حجر : إنما منعه صلى الله عليه وسلم من الرطب ; لأن الفاكهة تضر بالناقه لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة ، فأوفق بمعنى موافق ، إذ لا أوفقية في الرطب له أصلا ، ويصح كونه على حقيقته بأن يدعي أن في الرطب موافقة له من وجه ، وأن ضره من وجه آخر ، ولم يمنعه من السلق والشعير ; لأنه أنفع الأغذية للناقه ; لأن في ماء الشعير من التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة ، ما هو نافع للناقه جدا .

ففي الحديث أنه ينبغي الحمية للمريض والناقه ، بل قال بعض الأطباء : أنفع ما يكون الحمية للناقه ; لأن التخليط يوجب انتكاسه ، وهو أصعب من ابتداء المرض ، والحمية للصحيح مضرة ، كالتخليط للمريض والناقه وقد تشتد الشهوة والميل إلى ضار ، فيتناول منه يسيرا فتقوى الطبيعة على هضمه ، فلا يضر بل ربما ينفع ، بل قد يكون أنفع من دواء يكرهه المريض ; ولذا أقر صلى الله عليه وسلم وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة ، وخبره في ابن ماجه قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر ، فقال : ادن كل ، فأخذت تمرا فأكلت ، فقال : أتأكل تمرا وبك رمد ، فقلت : يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى ، فتبسم صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث الباب أصل عظيم للطب والتطبب ، وأنه ينبغي التداوي فقد صح : " أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا " .

وفي رواية : " حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا " ، وصح أيضا : " تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا ، وهو الهرم " .

وفي رواية : " إلا السام " أي : الموت يعني المرض الذي قدر الموت فيه ، وصح أيضا لكل داء دواء ، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى ، وفسرته رواية الحميدي : " ما من داء إلا وله دواء " ، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكا ، ومعه ستر فجعله بين الداء والدواء ، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء ، فإذا أراد الله تعالى برأه أمر الملك فرفع الستر ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى .

وفي رواية لأبي نعيم وغيره ، : " أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " ، واستفيد من هذه الأحاديث أن رعاية الأسباب بالتداوي لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع الجوع بالأكل ، ومن ثمة قال المحاسبي بتداوي المتوكل اقتداء بسيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجاب عن خبر : " من استرقى واكتوى برئ من التوكل " ، أي من توكل المتوكلين الذين من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فجعل بعض التوكل أفضل من بعض .

وقال ابن عبد البر : برئ من التوكل إن استرقى بمكروه ، أو علق شفاءه بوجود ، نحو الكي ، وغفل عن أن الشفاء من عنده تعالى ، وأما من فعله على وفق الشرع ، ناظر للرب الدواء متوقعا للشفاء من عنده ، قاصدا صحة بدنه للقيام بطاعة ربه ، فتوكله باق بحاله استدلالا بفعل سيد المتوكلين [ ص: 279 ] إذ عمل بذلك في نفسه وغيره ، انتهى ملخصا على أنه قيل : لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، فتعطيلها يقدح في التوكل ، وهذا البحث بطريق الاستيفاء مذكور في كتاب الإحياء ، ثم في قوله لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب الدواء ، وتخفيف للمريض ، فإن النفس إذا استشعرت أن لدائها دواء يزيله قوي رجاؤها ، وانبعث حارها الغريزي ، فتقوى الروح النفسانية والطبيعية والحيوانية ، وبقوة هذه الأرواح تقوى القوى الحاملة لها ، فيتدفع المريض وتقهره ، والمراد بالإنزال في أنزل له دواء التقدير أو إنزال علمه على لسان ملك الأنبياء ، أو إلهام من يعتد بإلهامه على أن الأدوية المعنوية كصدق الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه والخضوع بين يديه مع الصدقة والإحسان والتفريج عن المكروب أصدق فعلا ، وأشرع نفعا من الأدوية الحسية بشرط تصحيح النية ، ومن ثمة ربما تخلف الشفاء عمن استعمل طب النبوة لمانع قام به ، من نحو ضعف اعتقاد الشفاء به ، وتلقيه بالقبول وهذا هو السبب أيضا في عدم نفع القرآن لكثيرين مع أنه شفاء لما في الصدور .

وقد طب صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمراض ، ومحل بسطها في الطب النبوي ، وسائر السير من كتاب المواهب ، وزاد المعاد لابن القيم الجوزي وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية