صفحة جزء
( حدثنا ) : وفي نسخة " ثنا " . ( أبو عمار ) : بفتح مهملة فتشديد ميم . ( الحسين بن حريث ) : بضم مهملة [ ص: 78 ] وفتح راء وسكون ياء ومثلثة . ( الخزاعي ) : نسبة إلى خزاعة ، بضم معجمة ، ثقة ، أخرج حديثه الشيخان وغيرهما . ( أنا ) : أي أخبرنا كما في نسخة صحيحة . ( علي بن حسين بن واقد ) : بكسر القاف ، صدوق يهم ، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد والأئمة الأربعة في سننهم . ( حدثني أبي ) : أي حسين بن واقد . ( حدثني عبد الله بن بريدة ) : أي ابن الحصيب الأسلمي المروزي ، أخرج حديثه الأئمة الستة في سننهم ، وبريدة بالتصغير ، وكذا الحصيب . ( قال ) : أي عبد الله . ( سمعت أبي ) : وهو صحابي سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو ، وتوفي بها . ( بريدة ) : بالنصب على أنه عطف بيان لقوله أبي أو بدل منه . ( يقول ) : أي بريدة . ( جاء سلمان الفارسي ) : بكسر الراء وفي لسان الفارسي بسكون الراء وهو لحن أو محمول على تغيير النسب ، قيل : نسبة إلى كورة فارس ; لأنه من رام هرمز بلدة بين تستر وشيراز وهي من أعمال فارس ، وسمي الفارس فارسا ; لأن أهله كانوا فرسانا ، وقيل : لأنهم منسوبون إلى فارس بن كيومرث ، وفي شرح : أنه معرب بارس بسكون الراء ، وسلمان من أصفهان ، ولا تعلق له بفارس إلا أن العرب كانوا يسمون ما تحت ملوك العجم كله فارسا وأصفهان كان منها ولم يعلم اسم أبي سلمان ، وسئل عن نسبه فقال : أنا سلمان بن الإسلام ، ويقال : سلمان الحبر بالمهملة فالموحدة ، وقيل بالمعجمة والتحتية ، وهو أحد الذين اشتاقت إليهم الجنة ، وهو صحابي كبير ، قيل : عاش مائتين وخمسين ، وقيل : ثلثمائة وخمسين ، والأول أصح ، وقال أبو نعيم : أدرك عيسى عليه السلام ، وقرأ الكتابين ، وكان عطاؤه خمسة آلآف يفرقه ، ويأكل من كسب يده بعمل الخوص ، وله مزيد اجتهاد في الزهد فإنه مع طول عمره المستلزم لزيادة الحرص لم يزدد إلا زهدا ، وسئل علي كرم الله وجهه عنه فقال : علم العلم الأول والعلم الآخر وهو بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت ، قيل هرب من أخيه وكان مجوسيا فلحق براهب ثم بجماعة رهبان في القدس الشريف ، وكان في صحبتهم إلى وفاة أخيرهم ، فدلهم الحبر إلى الحجاز وأخبره بظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، فقصد الحجاز مع جمع من الأعراب ، فباعوه في وادي القرى من يهودي ثم اشتراه منه يهودي آخر من قريظة ، فقدم به المدينة ، فأقام بها حتى قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الراهب قد وصف له بالعلامات الدالة على النبوة فجاء . ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي في السنة الأولى من الهجرة . ( حين قدم ) : بكسر الدال ، ظرف لجاء ، أي : حين أوقات قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( المدينة بمائدة ) : باؤه لتعدية جاء ولا يبعد جعلها للمصاحبة [ ص: 79 ] خلافا لابن حجر ، بل هي أظهر هنا لزيادة الإفادة ، كما لا يخفى ، بل هي متعينة لرواية ( فاحتملتها على عاتقي ) ; ولذا اختارها ميرك وجوز التعدية ، والمشهور عند أرباب اللغة أن المائدة خوان عليه طعام ، فلا يسمى مائدة ، فعلى هذا قوله . ( عليها رطب ) : لتعيين ما عليها من الطعام بناء على أن القول بأن الرطب طعام ، وعلى القول بأنه من الفواكه وليس بطعام استعيرت المائدة هنا للظرف أو استعملت للخوان على وجه التجريد ، ففي الصحاح أن الطعام ما يؤكل ، قال صاحب المحكم : المائدة نفس الخوان ، وقال العسقلاني : قد تطلق المائدة على كل ما يوضع عليه الطعام ; لأنها مما تميد أي تتحرك ، ولا تختص بوصف مخصوص أي ليس بلازم أن تكون خوانا . ( فوضعها ) : أي المائدة . ( بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : قال العراقي في شرح تقريب الأسانيد : اعلم أن ظاهر هذه الرواية أن ما أحضره سلمان كان رطبا فقط ، وروى أحمد والطبراني بإسناد جيد من حديث سلمان نفسه أنه قال : فاحتطبت حطبا فبعته فصنعت طعاما فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الطبراني أيضا بإسناد جيد : فاشتريت لحم جزور بدرهم ، ثم طبخته فجعلت قصعة ثريد فاحتملتها على عاتقي ، ثم أتيت بها ووضعتها بين يديه . فلعل المائدة كان فيها طعام ورطب ، وأما ما رواه الطبراني من حديث سلمان أيضا أنها تمر فضعيف ، قلت : ولا منع من الجمع بين الثلاثة لو صحت الرواية ، ولعل الاكتفاء بالرطب في هذا الحديث ; لأن معظم الطعام كان رطبا ، وأما قول ابن حجر : لاحتمال تعدد الواقعة ، فبعيد جدا لما سيأتي من أنه جاء الغد بمثله . ( فقال : يا سلمان ) : يحتمل أن يكون هذا أول ملاقاته ، وعلم اسمه بفيضان أنوار النبوة أو بإخبار جبريل أو بسؤاله إياه عن اسمه أولا أو بإخبار بعض من حضر مجلسه الشريف ممن عرف سلمان ، ويحتمل أن يكون لقيه من قبل ذلك وعرفه . ( ما هذا ؟ ) : أي المأتي الذي أتيته [ ص: 80 ] أو الذي وضعته بين يدي ، وهو أولى مما قاله ابن حجر ، وعليه اقتصر أي الرطب إذ هو المقصود دون المائدة ، ولذا لم يقل " ما هذه ؟ " ووجه الأولوية إفادة العموم ، واحتمال أن تكون المائدة مغطاة ، وعلى كل تقدير فالمقصود بالسؤال الغرض الباعث له على إتيانه ووضعه . ( فقال ) : أي هذا وهذه . ( صدقة عليك وعلى أصحابك ) : قال شارح : إن الصدقة منحة يمنحها المانح طلبا لثواب الآخرة وتكون من الأعلى إلى الأدنى ، ففيه نوع من رؤية تذلل للآخذ والترحم عليه ، والهدية منحة لا يرى فيها تذلل الآخذ بل يطلب بها التحبب إلى الآخذ والتقرب إليه ، قال العصام : فمفهوم الصدقة مشعر بأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والصدقة محرمة فرضها وتطوعها عليه وعلى آله ، فمن جعل علة التحريم أنها أوساخ الناس جعلها محرمة على آل محمد أبدا ، ومن جعل علة تحريمها دفع التهمة عنه عليه السلام أنه لم يعط حق الفقراء لم يجعلها بعده محرمة عليهم ، وإليه ذهب جماعة من متأخري الشافعية وكذا جماعة من متأخري أصحابنا الحنفية وبعض المالكية . ( فقال ارفعها ) : أي المائدة أو الصدقة من بين يدي أو عني لرواية أحمد والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل ، قال العراقي : فيه تحريم صدقة التطوع على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح المشهور ، قال ميرك : وفيه تأمل لاحتمال امتناعه وجوبا أو تنزها . ( فإنا ) : أي نحن معاشر الأنبياء أو أنا وأقاربي من بني هاشم والمطلب أو الضمير للعظمة . ( لا نأكل الصدقة ) : ولا يصح أن يراد بالمتكلم مع الغير نفسه وأصحابه ; إذ لم يقل أحد بتحريم الصدقة على أصحابه اللهم إن كان أصحابه الحاضرون عنده عشيرته الأقربين ، ويحمل حينئذ أمره بالأكل لبعض أصحابه الذين حضروه بعد ذلك جبرا لخاطر سلمان ، قال ابن حجر : قوله " الصدقة " أي الزكاة ، ومثلها كل واجب ككفارة ونذر لحرمة ذلك عليه وعلى آله ، فإن أريد بها ما يعم المندوبة أيضا كانت النون للتعظيم لحرمة الصدقة عليه دون قرابته ، وزعم أن الامتناع لا يدل على التحريم ، ليس في محله لأن الأصل فيه ذلك ، انتهى . وفيه أنه لا معنى لقوله فإن أريد بها ما يعم المندوبة فإن هذه الإرادة متعينة ليصح التعليل عن امتناع أكل تلك الصدقة فإنها مندوبة ، وإذا كان كذلك وقد اختلفوا في تحريم صدقة التطوع واستدل بعضهم بهذا الحديث على التحريم ، فللمانع أن يقول هذا مع وجود الاحتمال لا يصلح للاستدلال ، ودعوى أن الأصل في الامتناع هو التحريم ممنوعة أيضا ; إذ لا دليل عليه عقلا ولا نقلا ، وأغرب العصام فقال : إنما أمر برفعها مطلقا ولم يأكل أصحابه ; لأنه تصدق على النبي وأصحابه فلم يصح أكل أصحابه منه ، فما روي أنه قال لأصحابه فتوجيهه أنهم أكلوه بعد جعل سلمان كله صدقة على أصحابه ، ووجه غرابته لا يخفى ; لأن فيه وفي أمثاله مما يكتفى بالعلم بالمرضي ، وأعجب منه أنه قال : بقي أنه بعد جعله صدقة لأصحابه يصح أن يأكله صلى الله عليه وسلم ; لأنه يصير هدية له من أصحابه ، كما روي أنه أكل من شاة صدقة أخذتها بريرة فقال : " صدقة عليها وهدية لنا " . إلا أن يقال : لم يأذنه أصحابه بالأكل لعدم [ ص: 81 ] حكمهم بالعلم ، انتهى . ووجه العجب أنه لم يفرق بين التمليك والإباحة ، فمسألة بريرة محمولة على إهدائها له صلى الله عليه وسلم بعد تملكها على وجه الصدقة بأخذها ، ومسألة الأصحاب هنا مبنية على إباحة الأكل لهم كما هو ظاهر ، فلا يصح لهم الإباحة لغيرهم ، وقد روى أحمد والطبراني أنه قال لأصحابه : كلوا ، وأمسك . ( قال ) : أي بريدة بن الحصيب . ( فرفعها ) : أي سلمان من عنده صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه أو فرفعها بعد فراغهم من أكلها ، وقال الحنفي : هذا بظاهره يدل على أن أصحابه صلى الله عليه وسلم أيضا لم يأكلوا منها أول مرة ، انتهى . ولم يظهر وجه لعدم أكل الأصحاب مع منافاته لظاهر رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : كلوا ، وأمسك يده . ( فجاء ) : أي سلمان . ( الغد ) : بالنصب أي حقيقة أو حكما أي يوما أو وقتا آخر بعد ذلك . ( بمثله ) : أي بنحو ما جاء به أولا ، وهذا أولى من قول ابن حجر أي برطب على مائدة ، ومن قول العصام : الضمير للمائدة لتأويلها بالخوان إذ لا يبقى فائدة للمثل وتغيير الخوان غير محقق ، ثم قال : ولك أن تجعل قوله بمثله حالا أي ملتبسا بمثل هذا المجيء ، يعني أن الباء على ما سبق للتعدية أو المصاحبة . ( فوضعه ) : أي سلمان مثله أو نحو ما سبق من وضعه . ( بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا يا سلمان ) : خاطبه باسمه ثانويا تلطفا على مقتضى رسمه وإشعارا بدخوله في السلم وهو الإسلام وتفاؤلا ، فإن الأسماء تنزل من السماء ، وفي وضع اسمه على صورة التثنية إيماء إلى تعدد قضيته واستسلامه مرة بعد أخرى . ( فقال : هدية لك ) : قال الحنفي : لعل اختيار كلمة " على " في الصدقة وكلمة " اللام " في الهدية للإشارة إلى الضر فيها وهو الذل ، وعدمه في الهدية وهو الإكرام ، انتهى . وهذه القاعدة إنما تكون في فعل واحد تارة يتعدى باللام وتارة [ ص: 82 ] بعلى كشهد له وشهد عليه ، وحكم له وحكم عليه ، ودعا له ودعا عليه ، لا أن اللام موضوعة في كل موضع للنفع وعلى للضر ، مع أن الصدقة على الأصحاب ليست للضرر ، وقد قال تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء ) نعم ، الاقتصار في الهدية على خطابه صلى الله عليه وسلم وتعميمه مع أصحابه في الصدقة للإشارة إلى أن القصد هو التقرب إليه من غير مشاركة لأحد فيه ، وأن غيره من الأصحاب مشارك له فيما هو الغرض من الصدقة تبعا له لو جازت له . ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ) : أي بطريق الانبساط . ( ابسطوا ) : دفعا لوهمهم أن هذه مختصة فليس لهم أن يأكلوا منها ، وإشارة إلى حسن الآداب مع الخدم والأصحاب إظهارا لما أعطاه من الخلق العظيم والكرم العميم ، وهو أمر من البسط بالموحدة والمهملتين من حد " نصر " على ما ضبط في أكثر النسخ ، ومعناه أوصلوا أيديكم إلى هذه المائدة وكلوا منها معنا ، فبسط اليد كناية عن إيصالها إلى الشيء ، ومنه : ( لئن بسطت إلي يدك ) فأيديكم محذوف يدل عليه السياق أو من البسط بمعنى النشر أي انشروا الطعام في المجلس بحيث يصل إليه يد كل واحد أو اقسموا هذه الهدية بينكم ، أو معناه انبسطوا من سلمان واستبشروا بقدومه تلطفا له وتطييبا لقلبه ، من قولهم : ليكن وجهك بسطا أي منبسطا ، ومنه حديث فاطمة : " يبسطني ما يبسطها " أي يسرني ما يسرها ; لأن الإنسان إذا سر انبسط وجهه ، وفي بعض النسخ " انشطوا " بالنون ثم الشين المعجمة المضمومة أو المفتوحة بعدها طاء مهملة ، فيكون من النشاط قريبا من الانبساط أي : كونوا ذا نشاط للأكل معي ، وبه صححه بعضهم بكسر الهمز والشين المعجمة من حد " ضرب " ، ويقال في معناه افتحوا العقدة ، ولعل مائدة سلمان كانت في لفافة معقودة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما هذه ؟ " ، ولا يشكل بما في النهاية ، يقال : نشطت العقدة إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها ; لما في التاج أنه من الأضداد وأنه من باب نصر ومصدره الأنشوطة ، وصححه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الشين من الإنشاط وهو الحل ، وفي قليل من النسخ : انشقوا ، بالنون والشين المعجمة والقاف المشددة من الانشقاق بمعنى الانفراج والتفرق ، ويمكن أن يكون أمرهم بالانشقاق ليدنو سلمان ، ويقرب منه صلى الله عليه وسلم أو يجلس فيما بينهم . هذا وفي الحديث قبول الهدية ممن يدعي أنها ملكه اعتمادا على مجرد ظاهر الحال من غير بحث عن باطن الأمر من ذلك ، ولعل سلمان كان مأذونا في ذلك من مالكه ، وفيه أنه يستحب للمهدى له أن يعم الحاضرين مما أهدي إليه ، وحديث : " من أهدي له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " وإن كان ضعيفا كما قاله ميرك مؤيد لهذا المعنى ، وقال الترمذي في الأصول : المراد بهم الذين يداومون مجلسه ويعتكفون بابه ويتفقدون أموره لا كل من كان جالسا في ذلك الوقت ، انتهى . وأما ما اشتهر على الألسنة أن الهدايا مشترك فليس للفظه أصل ، وإن كان هو في معنى الضعيف ، ووقع لبعض المشايخ أنه أتي بهدية عظيمة من دنانير ودراهم جسيمة ، وكان عنده فقير مسافر فقال : يا مولانا ، الهدايا مشترك ، فقال الشيخ بلسانه أماتنها خوشترك أي الانفراد أحسن ، فظن الفقير أنه يريد الانفراد [ ص: 83 ] لنفسه فتغير حاله ، فقال الشيخ : لك تنها خوشترك ، فشرع في أخذه ، فعجز عن حمله وحده ، فأشار الشيخ إلى بعض أصحابه بمعاونته . ومن اللطائف أن الإمام أبا يوسف أتي بهدية من النقود فقيل له : الهدايا مشترك ، فقال : اللام للعهد ; أي : الهدايا من الرطب والزبيب وأمثالها ، فانظر الفرق البين بين علماء الظاهر والباطن . ( ثم نظر إلى الخاتم ) : بالفتح ويكسر . ( على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : هذا دليل الترجمة ، وأتى بثم الدالة على التراخي لما في كتب السير أن سلمان لبث بعد ذلك ينتظر رؤية الآية الثالثة التي أخبره عنها آخر مشايخه ، أنه سيظهر حبيب عن قريب ومن علاماته القاطعة على أنه هو النبي الموعود الذي ختم به النبوة أنه لم يأكل الصدقة ويقبل الهدية ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فلما شاهد سلمان العلامتين المتقدمتين انتظر الآية الثالثة إلى أن مات واحد من نقباء الأنصار فشيع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازته ، وذهب معها إلى بقيع الغرقد ، وجلس مع أصحابه في ذلك المكان ينتظر دفنه ، فجاء سلمان واستدار خلفه لينظر إلى خاتم النبوة ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدباره عرف أنه يريد أن يستثبت شيئا وصف له ، فألقى الرداء عن ظهره فنظر سلمان إلى الخاتم . ( فآمن به ) : بلا تراخ ومهلة لما رأى من انطباق أوصافه المذكورة في التوراة عليه صلى الله عليه وسلم ، فالفاء متفرع على مجموع ما سبق من الآيات الثلاثة . ( وكان لليهود ) : مفرده اليهودي ; أي : كان سلمان موثوقا عندهم بحبال رقيتهم ، والجملة حال من فاعل آمن ، والظاهر أنه كان مشتركا بين جماعة منهم كما يدل عليه قوله الآتي : " على أن يغرس لهم " ، لكن أخرج ابن سعد من طريق ابن عباس ، عن سلمان أنه : قدم في ركب من بني كلب إلى وادي القرى ، فظلموني وباعوني عند ابن رجل من اليهود . وفي أخرى : فاشترتني امرأة بالمدينة . فيحتمل على أنهما كانا شريكين في اشترائه ، أو يحمل حديث الباب على الإسناد المجازي ، وجعل التابع في دائرة المتبوع والفرع في حكم الأصل ، أو على تقدير مضاف ; أي : لبعض اليهود ، ويحتمل أن رفقاءه من بني كلب باعوه في وادي القرى لرجل من اليهود ثم باعه ذلك الرجل . . . امرأة بالمدينة ، ثم اشتراه منها جماعة من اليهود ، فإنه قد صح عن سلمان أنه قال : تداولني بضعة عشر من رب إلى رب . ( فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : قيل : أي بشرط العتق ، وقيل : أمره بأن يشتري نفسه ; لما في جامع الأصول أنه كوتب فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابته ، وقيل : أدى بدل كتابته ، وسماه اشتراء مجازا ، وحاصل معنى الكل أنه خلصه عن رقه . ( بكذا وكذا درهما ) : قيل : أربعون أوقية من فضة ، وقيل : من ذهب ، والأوقية كانت إذ ذاك أربعين درهما . ( على أن يغرس ) : بفتح الياء وكسر الراء . ( لهم ) : أي لمن يملك سلمان . ( نخيلا ) : هو والنخل بمعنى واحد والواحدة النخلة ، ثم " على " بمعنى " مع " ، ويؤيده ما في رواية " وعلى " بالواو العاطفة ، وهذا يقتضي أن لا يكون شراؤه صلى الله عليه وسلم حقيقة ; إذ لا يصح جعل الغرس داخل الثمن ولا شرطا في عقد البيع ، سواء جعل ضمير " يغرس " راجعا إلى سلمان أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يلزم منه أن البائع [ ص: 84 ] قد استثنى بعضا من منفعة المبيع لنفسه مدة مجهولة ، وهي غرسه لتلك النخلة وعمله فيها وهو منهي عنه ، ويؤيده ما قررناه ما في مسند أحمد عن سلمان أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان ، فكاتبت على ثلثمائة نخلة أحسنها ، وأربعين أوقية ذهبا ، وزاد في بعض الروايات : وبقي الذهب ، فجاءه صلى الله عليه وسلم مثل البيضة من الذهب من بعض المعادن ، فقال صلى الله عليه وسلم لسلمان : " أد هذه عنك " . ( فيعمل سلمان ) : بالنصب معطوف على " يغرس " فيفيد أن عمله من جملة بدل الكتابة ، قال العصام : وفي نسخة " ليعمل " ، والله أعلم بصحته . وقيل : بالرفع على أن عمله متبرع ، وهو يصحح أن شراءه صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ثم في تصريح سلمان إيماء إلى أن فاعل " يغرس " هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما قول الحنفي : أي سلمان ، فوهم مخالف لما في الأصول فيه كذا في أكثر النسخ ، وفي بعض النسخ : فيعمل فيها سلمان . فالتذكير باعتبار النخل والتأنيث باعتبار النخلة ، كذا ذكره ميرك ، وتبعه الحنفي ، وقال ابن حجر : ذكره نظرا للفظ والأولى ما في القاموس : النخل معروف كالنخيل ويذكر وواحدته نخلة جمعها نخيل ، انتهى . وقد جاء في القرآن : ( نخل منقعر ) ، و ( نخل خاوية ) . ( حتى تطعم ) : بضم أوله وبكسر العين ، لا غير على ما في أصلنا ، وهو بالتذكير والتأنيث ، وقد سبق وجهها ، والمعنى : حتى تثمر ، يقال : أطعمت النخلة إذا أثمرت ، قال ميرك : واعلم أن روايتنا بالتاء الفوقانية والتحتانية لكن بصيغة المعروف لا غير ، وأما ما قاله بعض المحدثين من أنه روي بصيغة المجهول فليس هو في روايتنا وأصول مشايخنا ، والله الهادي ، انتهى . وأراد به ، والله أعلم ملا حنفي فإنه كان يدعي أنه أخذ الحديث عن والد ميرك ، وقد ذكر في شرحه أنه يروى معروفا ومجهولا بالمثناة من فوق ومن تحت ففيه أربعة أوجه : منصوب بتقدير " أن " بعد " حتى " . وفي النهاية في الحديث : نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم . يقال : أطعمت الشجرة إذا أثمرت ، وأطعمت الثمرة إذا أدركت أي صارت ذات طعم يؤكل منها . وروي حتى تطعم أي : تؤكل ، ولا تؤكل إلا إذا أدركت ، انتهى كلامه . ومنه يعلم وجه الرواية معروفا ومجهولا ، تم كلامه . ولا يخفى أن الرواية بالوجهين إذا ثبتت في كلمة في حديث لا يلزم منه ثبوتهما في حديث آخر ، خصوصا مع اختلاف الفاعل فإنه الثمرة في الحديث الذي ذكره صاحب النهاية وهو يحتمل المعنيين كما ذكرهما على ما لا يخفى ، والنخلة في هذا الباب هي الفاعل ، فمعنى إثمارها ظاهر ، وأما قولك : حتى تؤكل النخلة ، فما أبعدها عن التحقيق والتدقيق ، وفي القاموس : أطعم النخل إذا أدرك ثمرها ، فهو إذا أسند إلى غير أي مأكول كالثمرة جاز كونه معلوما ومجهولا كما علم من صنيع صاحب النهاية فلا يصح قياس غيره عليه لما بينهما من الفرق ، وبه اندفع قول ابن حجر أيضا ، وروي بالبناء للمفعول أي : يؤكل ثمرها ; لأن الأصل عدم التقدير ، ولا يعدل إليه إلا بعد صحة الرواية ، فتدبر واعلم أن في كتب السير : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعانوا سلمان بأمره صلى الله عليه وسلم إياهم بإعانته ، فجمعوا الفسلان على مقدار مقدرتهم حتى اجتمع له ثلثمائة فسيل ، ثم حفر سلمان لها في [ ص: 85 ] أرض عينها أصحابه ، ولما جاء وقت الغرس أخبر به صلى الله عليه وسلم فجاء . ( فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي بيديه الكريمتين . ( النخل ) : أي جميعها . ( إلا نخلة ) : بالنصب على الاستثناء . ( واحدة ) : للتأكيد . ( غرسها عمر رضي الله عنه فحملت ) : أي أطعمت . ( النخل ) : أي جميعها . ( من عامها ) : أي من سنة غرسها ، وفي نسخة : في عامها ، وهو الأظهر ، وإضافة العام إليها باعتبار أنها مغروسة فيه ، والضمير إلى النخيل ، وقال العصام : أي من عام الغرس ، وفي بعض النسخ : في عامه ، والضمير للغرس ، انتهى . وهو خلاف الظاهر المتبادر ، وفي هذا معجزة لأن المعتاد أن النخل لا تحمل من عام غرسها . ( ولم تحمل نخلة ) : بفتح المثناة فقط في أصلنا المصحح بالأصول المعتمدة ، وقال الحنفي : روي بالمثناة من فوق ومن تحت ووجه كلتيهما ظاهر . ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن هذه ) : أي ما سبب هذه النخلة الواحدة في أنها ما حملت كبقية النخلة . ( فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله أنا غرستها ) : وعدم حمل هذه النخلة في عام غرسها وقع على سنن ما هو المتعارف ، وكان عمر رضي الله عنه ما عرف أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالغرس إظهار المعجزة بل مجرد المعاونة . ( فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرسها فحملت من عامه ) : أي عام الغرس ، وفي بعض النسخ : " من عامها " وهو ظاهر ، وكان الحكمة في ذلك أن يظهر المعجزة بإطعام الكل سوى ما لم يغرسه كل الظهور ، ويتسبب لظهور معجزة أخرى وهي غرس نخلة عمر ثانيا وإطعامها في عامها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية