صفحة جزء
( حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا ) هو ابن حرام ضد حلال الأشجعي شهد بدرا ( وكان يهدي ) على صيغة المعلوم من الإهداء ، والمعنى أنه كان يأتي بالهدية إليه - صلى الله عليه وسلم - ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هدية من البادية ) أي : حاصله منها مما يوجد فيها من الأزهار ، والأثمار والنبات ، وغيرها ( فيجهزه ) بتشديد الهاء ، وفي نسخة صحيحة بتخفيفها أي : يعد ويهيئ له ( النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ما يحتاج إليه في البادية من أمتعة البلدان من المدينة ، وغيرها ( إذا أراد أن يخرج ) أي : زاهر إلى وطنه جزاء وفاقا ( فقال النبي - صلى الله [ ص: 36 ] عليه وسلم - إن زاهرا باديتنا ) أي : نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات ، فصار كأنه باديته ، وقيل من إطلاق اسم المحل على الحال أو على حذف المضاف أي : ساكن باديتنا كما حقق ( في وسائل القربة ) ، وقيل تاؤه للمبالغة ، ويؤيده ما في بعض النسخ بأيدينا ، والبادي : هو المقيم بالبادية ، ومنه قوله تعالى سواء العاكف فيه والباد ( ونحن ) أي : أهل بيت النبوة أو الجمع للتعظيم ، ويؤيد الأول ما في جامع الأصول من أنه كان زاهر بن حرام ( حاضروه ) أي : حاضروا المدينة له ، وفيه كمال الاعتناء به ، والاهتمام بشأنه ، والمعنى : ونحن نعد له ما يحتاج إليه في باديته من البلد ، وإنما ذكره مع ما فيه من إيهام ذكر المنعم بإنعامه لكونه مقتضى المقابلة الدالة على حسن المعاملة تعليما لأمته في متابعة هذه المجاملة ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ) أي : حبا شديدا كما دل عليه ما قبله مع ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تهادوا تحابوا " ، والجملة تمهيد ، وتوطئة لقوله ( وكان رجلا ) أي : من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله الآية ( دميما ) بالدال المهملة أي : قبيح الصورة مع كونه مليح السيرة .

ففيه تنبيه على أن المدار على حسن الباطن ، ولذا ورد .

" إن الله لا ينظر إلى صوركم ، وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم " ، ( فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما ) فنعم الطالب الذي جاء مطلوبه ( وهو يبيع متاعه ) جملة حالية ، والمعنى أنه مشتغل بمتاعه الظاهري وذاهل عن النعمة الغير المترقبة من مجيء مطلوبه المشتري ( واحتضنه ) عطف على أتاه ، وفي المشكاة بالفاء كما في بعض النسخ هنا أيضا ، وهو الأنسب أي : أدخله في حضنه ( من خلفه ) وحاصله أنه جاء من ورائه ، وأدخل يديه تحت إبطي زاهر فاعتنقه ، وأخذ عينيه بيديه كيلا يعرفه ، فقوله ( ولا يبصر ) أي : لا يبصره كما في نسخة ، حال من فاعل احتضنه ، وفي المشكاة ، وهو لا يبصره جمعا بين النسختين مع زيادة هو ، وهو الأظهر يقال احتضن الشيء جعله في حضنه ، والحضن : ما دون الإبط إلى الكشح ، وهو ما دون الخاصرة إلى الضلع ، وحضنا الشيء جانباه ( فقال : من هذا ) أي : المحتضن ( أرسلني ) بصيغة الأمر ، وفي نسخة : أرسلني من هذا ؟ وهو موافق لما في المشكاة ، والظاهر وقوعه مكررا ( فالتفت ) أي : ببعض بصره ، ورأى بطرفه طرف محبوبه ، وطرفا من طرف مطلوبه ( فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : عرفه بنعت الجمال على وجه الكمال ( فجعل ) أي : شرع ( لا يألوا ) أي : بهمزة ساكنة ، ويبدل وبضم اللام أي : لا يقصر ( ما ألصق ) أي : ألزق كما في رواية المشكاة ( ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ما مصدرية ، والمعنى فطفق لا يقصر في لزق ظهره بصدر مصدر الفيوض الصادرة في [ ص: 37 ] الكائنات الواردة على الموجودات ممن هو رحمة للعالمين تبركا ، وتلذذا به ، وتدللا على محبوبه ، والظاهر أنه كان حينئذ ممسوكا بيده - صلى الله عليه وسلم - وإلا كان مقتضى الأدب أن يقع على رجليه ، ويقبلهما بمقلتيه ، ويتبرك بغبار قدميه ، ويجعله كحل عينيه ( حين عرفه ) كأنه ذكره ثانيا اهتماما بشأنه ، وتنبيها على أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلا لمعرفته ( فجعل ) وفي المشكاة كما في نسخة هنا : وجعل ( النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من يشتري العبد ) أي : هذا العبد كما في نسخة ، ووجه تسميته عبدا ، واضح ؛ فإنه عبد الله ووجه الاستفهام عن الشراء الذي يطلق لغة على مقابلة الشيء بالشيء ، وعلى الاستبدال أنه أراد من يقابل هذا العبد بالإكرام أو من يستبدله مني بأن يأتيني بمثله كذا ذكره ابن حجر ، ولكن جوابه الآتي لا يلائم الوجهين ، وكذا ما ذكره من أنه يصح أن يريد التعريض له بأنه ينبغي له أن يشتري نفسه من الله ببذلها في جميع مطالبه ، وما يرضيه .

فالوجه الوجيه أن الاشتراء على حقيقته ، وأن العبد فيه تورية أو تشبيه أو قبله مضاف مقدر أي : من يشتري مثل هذا العبد مني ، ولا يلزم من هذا القول لا سيما والمقام مقام المزاح إرادة تحقق بيعه ليشكل على الفقيه بأن بيع الحر غير جائز ( فقال : يا رسول الله إذا ) بالتنوين جواب ، وجزاء بشرط محذوف أي : إن بعتني ، قاله ابن حجر ، والأظهر إن عرضتني على البيع إذا ( والله تجدني بالرفع وينصب ( كاسدا ) أي : متاعا رخيصا أو غير مرغوب فيه ، وهو أبلغ ، وفي نسخة إذا تجدني والله كاسدا بتأخير كلمة القسم عن الفعل قال ميرك : وفي بعض النسخ تجدوني بلفظ الجمع ، ويحتاج على تكلف قلت ، وجهه أن الجمع لتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - أو الضمير له ، ولأصحابه المعروضين عليهم رضي الله عنهم ثم يحتمل أنه بتشديد النون ; فيكون مرفوعا أو بتخفيفه ; فيصير محتملا ، ووجه النصب ظاهر ، ووجه الرفع أن يراد به الحال لا الاستقبال قال ابن حجر : تبعا لشارح ، وفي رواية إذا هذا والله بزيادة : " هذا " ، قلت : هذا والله زيادة ضرر ، ولا أظن أن لها صحة في الرواية لعدم صحتها في الدارية إذ لا خفاء في ركاكة : " إذا هذا والله تجدني كاسدا " ، ولعله تحريف هنا أي : في هذا المكان من السوق أو مقام العرض فله وجه هاهنا ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن ) وفي نسخة ولكن ( عند الله لست بكاسد ) الظرف متعلق بكاسد قدم عليه ، وعلى عامله للاهتمام ، والاختصاص به ( أو قال : ) شك من الراوي ( أنت ) وفي نسخة لكن ( عند الله غال ) وهذا أبلغ من الأول ; فتأمل ; فإن المنطوق أقوى من المفهوم هذا .

وروى أبو يعلى أن رجلا كان يهدي إليه - صلى الله عليه وسلم - العكة من السمن أو العسل فإذا طولب بالثمن جاء بصاحبه فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم أعطه متاعه أي : ثمنه ، فما يزيد - صلى الله عليه وسلم - على أن يبتسم ، ويأمر به ; فيعطى . وفي رواية أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتراها ثم جاء ثم جاء بها ، فقال : يا رسول الله هذه هدية لك ; فإذا طالبه صاحبها بثمنها جاء به ; فقال : أعط هذا الثمن ، فيقول ألم تهده لي ، فيقول ليس عندي ، فضحك ، ويأمر لصاحبه بثمنه ، قلت ، فكان رضي الله عنه من كمال محبته [ ص: 38 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما رأى طرفة أعجبتها نفسه اشتراها ، وآثره - صلى الله عليه وسلم - بها وأهداها إليه على نية أداء ثمنها إذا حصل لديه فلما عجز ، وصار كالمكاتب رجع إلى مولاه ، وأبدى إليه صنيع ما ولاه ، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ; فرجع بالمطالبة إلى سيده ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية