صفحة جزء
( حدثنا علي بن حجر حدثنا شريك عن سماك ) بكسر فتخفيف ( بن حرب عن جابر بن سمرة ) بفتح وضم ( قال جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة وكان ) بالواو وفي نسخة فكان ( أصحابه ) أي : في جميع المجالس أو في بعضها ( يتناشدون الشعر ) أي : يطلب بعضهم بعضا أن ينشد الشعر المحمود ، والإنشاد هو أن يقرأ شعر الغير ، وفي بعض النسخ يناشدون من باب المفاعلة ( ويتذاكرون ) أي : في مجالسهم دائما أو أحيانا ( أشياء ) أي : منظومة أو منثورة ( من أمر الجاهلية ) وفي بعض النسخ : من أمور الجاهلية ، وفي بعضها : من أمر جاهليتهم ( وهو ساكت ) أي : غالبا لما غلب عليه من التحير في الله ، والتفكر في أمر دنياه ، وعقباه ، أو المعنى ساكت عنهم بأنه لم يمنعهم من إنشاد الشعر ، وذكر أمر الجاهلية لحسن خلقه في عشرتهم وزيادة ألفتهم ، ومحبتهم بدفع الحرج عن مباحاتهم بناء على حسن نياتهم ، وأخذ الفوائد ، والحكم من حكاياتهم كما هو شأن العارفين في مشاهداتهم .


ففي كل شيء له شاهد . دليل على أنه واحد

( وربما تبسم ) بصيغة الماضي ، وفي بعض النسخ يتبسم بصيغة المضارع ( معهم ) أي : مع أصحابه ، والمعنى أنه كان أحيانا يتبسم على رواياتهم ، وبيان حالاتهم ، وتحسين مقالاتهم منها أنه قال واحد من أصحابه :

ممن صار من جملة أحبابه .

    ما نفع صنم أحدا مثل ما نفعني صنمي


فإني جعلته من الحيس .

    لما كان لي من الكيس
.

فنفعني في زمن القحط .

    ومن كان معي من الرهط

.

فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الآخر

رأيت ثعلبا صعد فوق صنمي .

    وبال على رأسه وعينيه حتى عمي
.

فقلت أرب يبول الثعلبان برأسه .

    فتركت طريقة الجاهلية
، ودخلت في شريعة الإسلام هذا

.

[ ص: 53 ] وقال ابن حجر فيه حل استماع الشعر ، وإنشاده مما لا فحش ، ولا خنأ فيه وإن كان مشتملا على ذكر شيء من أيام الجاهلية ، ووقائعهم في حروبهم ، ومكارمهم ويحتمل أن أشعارهم التي كانوا يتناشدونها فيها الحث على الطاعة ، وذكرهم أمور الجاهلية للندم على فعلها ، فيكون من القسم الأول الذي هو سنة لا مباح فقط لأن قاعدة أن التأسيس خير من التأكيد تؤيد أن المراد بها الإباحة ، وثمة السنة كما قررته خلافا لشارح .

قلت الصواب ما شرح الله لصدر ذلك الشارح حيث حرر فعل أصحابه ، وقرر سكوته - صلى الله عليه وسلم - على مراد الشارع الفاتح لا على المباح المجرد الذي يسمى لغوا بلا فائدة دينية ، ودنيوية وعائدة أخروية ، وقد قال تعالى والذين هم عن اللغو معرضون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقال - صلى الله عليه وسلم - .

" إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " .

وما الموجب لحمل ما ذكر على خلاف ما يقتضي حسن الظن بأصحابه الكرام رضي الله عنهم ، بعد تشرفهم بالإسلام لا سيما وهم في صحبة سيد الأنام مع تعدد مثل هذه القضية في الأيام .

وأما ما ذكره من القاعدة فهي معتبرة في القضية الواحدة ، وأما القضية الواقعة في الحديثين المختلفين زمانا ومكانا وراويا ، فما بعده من الاعتناء بها ، وجعل الكلام مؤسسا بسببها على أن التأسيس إذا بنينا على الأساس النفيس يوجد فيه من جهة أن الحديث الأول في شعر للشاعر ، والثاني في إنشاد شعر الغير ، وأن الأول مختص بالنظم ، والثاني أعم منه ومن النثر مع أن الفعل إذا تعدد ، وحصلت فيه المواظبة والمداومة يكون مقتضيا لعدة من أنواع السنة كما في الحديث الثاني ، وأما ما عداه من وقوع العمل مرة أو نادرا ، فهو أحق بإطلاق الإباحة كما في الحديث الأول ، وبهذا يتبين لك انعكاس القضية ; فتأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية