صفحة جزء
الفصل السابع : إعزاز ، وإكرام من له صلة به - صلى الله عليه وسلم -

ومن إعظامه ، وإكباره إعظام جميع أسبابه ، وإكرام مشاهده ، وأمكنته من مكة ، والمدينة ، ومعاهده ، وما لمسه - صلى الله عليه وسلم - أو عرف به .

وروي عن صفية بنت نجدة ، قالت : كان لأبي محذورة قصة في مقدم رأسه إذا قعد ، وأرسلها أصابت الأرض . فقيل له : ألا تحلقها ؟ فقال : لم أكن بالذي أحلقها ، وقد مسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده .

وكانت في قلنسوة خالد بن الوليد شعرات من شعره - صلى الله عليه وسلم - ، فسقطت قلنسوته في بعض حروبه ، فشد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة من قتل فيها ، فقال : لم أفعلها بسبب القلنسوة ، بل لما تضمنته من شعره - صلى الله عليه وسلم - لئلا أسلب بركتها ، وتقع في أيدي المشركين .

ورئي ابن عمر واضعا يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ، ثم وضعها على وجهه ] .

ولهذا كان مالك - رحمه الله - لا يركب بالمدينة دابة ، وكان يقول : أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابة .

وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعا كثيرا كان عنده ، فقال له الشافعي : أمسك منها دابة . [ ص: 416 ] فأجابه بمثل هذا الجواب .

وقد حكى أبو عبد الرحمن السلمي عن أحمد بن فضلويه الزاهد ، وكان من الغزاة الرماة أنه قال : ما مسست القوس بيدي إلا على طهارة منذ بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ القوس بيده .

وقد أفتى مالك فيمن قال : تربة المدينة ردية يضرب ثلاثين درة ، وأمر بحبسه ، وكان له قدر ، وقال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه ! تربة دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - يزعم أنها غير طيبة .

وفي الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم - في المدينة : من أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ، ولا عدلا .

وحكي أن جهجاها الغفاري أخذ قضيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من يد عثمان - رضي الله عنه - ، وتناوله ليكسره على ركبته ، فصاح به الناس ، فأخذته الآكلة في ركبته فقطعها ، ومات قبل الحول .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : من حلف على منبري كاذبا فليتبوأ مقعده من النار .

وحدثت أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرا ، وقرب من بيوتها ترجل ، ومشى باكيا منشدا :


، ولما رأينا رسم من لم يدع لنا فؤادا لعرفان الرسوم ، ولا لبا     نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
لمن بان عنه أن نلم به ركبا



[ ص: 417 ] وحكي عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول أنشد يقول متمثلا :


رفع الحجاب لنا فلاح لناظر     قمر تقطع دونه الأوهام
، وإذا المطي بنا بلغن محمدا     فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الثرى     فلها علينا حرمة وذمام



وحكي عن بعض المشايخ أنه حج ماشيا ، فقيل له في ذلك ، فقال : العبد الآبق يأتي إلى بيت مولاه راكبا ؟ ! لو قدرت أن أمشي على رأسي ما مشيت على قدمي .

قال القاضي : وجدير لمواطن عمرت بالوحي ، والتنزيل ، وتردد بها جبريل ، وميكائيل ، وعرجت منها الملائكة ، والروح ، وضجت عرصاتها بالتقديس ، والتسبيح ، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر ، وانتشر عنها من دين الله ، وسنة رسوله ما انتشر ، مدارس آيات ، ومساجد ، وصلوات ، ومشاهد الفضائل ، والخيرات ، ومعاهد البراهين ، والمعجزات ، ومناسك الدين ، ومشاعر المسلمين ، ومواقف سيد المرسلين ، ومتبوأ خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة ، وأين فاض عبابها ، ومواطن طويت فيها الرسالة ، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها أن تعظم عرصاتها ، وتتنسم نفحاتها ، وتقبل ربوعها ، وجدراتها :


يا دار خير المرسلين ومن به     هدي الأنام وخص بالآيات
عندي لأجلك لوعة وصبابة     ، وتشوق متوقد الجمرات
، وعلي عهد إن ملأت محاجري     من تلكم الجدرات والعرصات
لأعفرن مصون شيبي بينها     من كثرة التقبيل والرشفات
لولا العوادي والأعادي زرتها     أبدا ولو سحبا على الوجنات
لكن سأهدي من حفيل تحيتي     لقطين تلك الدار والحجرات
أزكى من المسك المفتق نفحة     تغشاه بالآصال والبكرات
، وتخصه بزواكي الصلوات     ، ونوامي التسليم والبركات



التالي السابق


الخدمات العلمية