صفحة جزء
[ ص: 444 ] الفصل التاسع : في حكم زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ، وفضيلة من زاره ، وسلم عليه ، وكيف يسلم ، ويدعو

وزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغب فيها .

[ حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ] ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - من زار قبري ، وجبت له شفاعتي .

وعن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري ، وكنت له شفيعا يوم القيامة

وفي حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي .

وكره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كراهية الاسم ، لما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : لعن الله زوارات القبور .

وهذا يرده قوله : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .

وقوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة ، وقيل لأن [ ص: 445 ] ذلك لما قيل : إن الزائر أفضل من المزور . وهذا أيضا ليس بشيء ، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، وليس هذا عموما .

وقد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، ولم يمنع هذا اللفظ في حقه - تعالى - .

وقال أبو عمران - رحمه الله - : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، وزرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض ، وكره تسوية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس بهذا اللفظ ، وأحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأيضا فإن الزيارة مباحة بين الناس ، وواجب شد المطي إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - ، يريد بالوجوب هنا وجوب ندب ، وترغيب ، وتأكيد ، لا وجوب فرض .

والأولى عندي أن منعه ، وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري ، وثنا يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، والتشبه بفعل أولئك ، قطعا للذريعة ، وحسما للباب ، والله أعلم .

قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتبرك برؤية روضته ، ومنبره ، وقبره ، ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطئ قدميه ، والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمره ، وقصده من الصحابة ، وأئمة المسلمين ، والاعتبار بذلك كله .

وقال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فتلا هذه الآية : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] ثم قال : صلى الله عليك يا محمد من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ولم تسقط له حاجة .

وعن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال : لي إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقره مني السلام .

وقال غيره : وكان يبرد إليه البريد من الشام .

قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على [ ص: 446 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم انصرف .

وقال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودعا ، يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة ، ويدنو ، ويسلم ، ولا يمس القبر بيده .

وقال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، ولكن يسلم ، ويمضي .

قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم ، وجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه .

وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة وأكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف .

ورئي ابن عمر ، واضعا يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .

وعن ابن قسيط ، والعتبي : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا المسجد حسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون .

وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه كان يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي ، وعلى أبي بكر ، وعمر .

وعن ابن القاسم ، والقعنبي : ويدعو لأبي بكر ، وعمر .

قال مالك في رواية ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله ، وبركاته .

قال في المبسوط : ويسلم على أبي بكر ، وعمر .

قال القاضي أبو الوليد الباجي : وعندي أنه يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة ، ولأبي بكر ، وعمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف .

وقال ابن حبيب : ويقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله ، وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربنا ، وصلى الله ، وملائكته على محمد . اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وجنتك ، [ ص: 447 ] واحفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصد إلى الروضة ، وهي ما بين القبر ، والمنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما ، وتسأله تمام ما خرجت إليه ، والعون عليه .

وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، وفي الروضة أفضل .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ما بين منبري ، وقبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة .

ثم تقف متواضعا متوقرا ، فتصلي عليه ، وتثني بما يحضرك ، وتسلم على أبي بكر ، وعمر ، وتدعو لهما .

وأكثر من الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ، والنهار ، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء ، وقبور الشهداء .

قال مالك في كتاب محمد : ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ، وخرج يعني في المدينة ، وفيما بين ذلك .

قال محمد : وإذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، وكذلك من خرج مسافرا .

وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرجت فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك .

وفي رواية أخرى : فليسلم مكان فليصل فيه ، ويقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك .

وفي أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم .

وعن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى الله ، وملائكته على محمد . السلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله ، باسم الله دخلنا ، وباسم الله خرجنا ، وعلى الله توكلنا . وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .

وعن فاطمة أيضا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد قال : صلى الله على محمد وسلم . ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا .

وفي رواية : حمد الله ، وسمى ، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر مثله .

وفي رواية : باسم الله ، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعن غيرها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، ويسر لي أبواب [ ص: 448 ] رزقك .

وعن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليقل : اللهم افتح لي .

وقال مالك في المبسوط : وليس يلزم من دخل المسجد ، وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء .

وقال فيه أيضا : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيصلي عليه ، ويدعو له ، ولأبي بكر ، وعمر .

فقيل له : فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ، ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة ، والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ، ويدعون ساعة ! .

فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة ، وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .

قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : وذلك رأي .

قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

وقال : لا تجعلوا قبري عيدا .

ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر : لا يلصق به ، ولا يمسه ، ولا يقف عنده طويلا .

وفي العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي حيث العمود المخلق .

وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف ، والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية