صفحة جزء
الفصل الأول : في حكم عقد قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقت نبوته

اعلم - منحنا الله ، وإياك توفيقه - ، أن ما تعلق منه بطريق التوحيد ، والعلم بالله ، وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحي إليه فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم ، واليقين ، والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين .

هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم - عليه السلام - . قال بلى ولكن ليطمئن قلبي إذ لم يشك إبراهيم في إخبار الله - تعالى - له بإحياء الموتى ، ولكن أراد طمأنينة القلب ، وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء ، فحصل له العلم الأول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ، ومشاهدته .

الوجه الثاني : أن إبراهيم - عليه السلام - إنما أراد اختبار منزلته عند ربه ، وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه ، ويكون قوله - تعالى - : أولم تؤمن [ البقرة : 260 ] ، أي تصدق بمنزلتك مني ، وخلتك ، واصطفائك ؟ .

الوجه الثالث : أنه سأل زيادة يقين ، وقوة طمأنينة ، وإن لم يكن في الأول شك ، إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها ، وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ، ومجوز في النظريات ، فأراد الانتقال من النظر ، والخبر إلى المشاهدة ، والترقي من علم اليقين إلى عين [ ص: 460 ] اليقين ، فليس الخبر كالمعاينة ، ولهذا قال سهل بن عبد الله : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله .

الوجه الرابع : أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ، ويميت طلب ذلك من ربه ، ليصح احتجاجه عيانا .

الوجه الخامس : قول بعضهم : هو سؤال على طريق الأدب ، والمراد : أقدرني على إحياء الموتى ، وقوله : ليطمئن قلبي عن هذه الأمنية .

الوجه السادس : أنه أرى من نفسه الشك ، وما شك ، لكن ليجاوب فيزداد قربه .

وقول نبينا : نحن أحق بالشك من إبراهيم نفي لأن يكون إبراهيم شك ، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا بإبراهيم ، أي نحن موقنون بالبعث ، وإحياء الله الموتى ، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه ، إما على طريق الأدب ، أو أن يريد أمته الذين يجوز عليهم الشك ، أو على طريق التواضع ، والإشفاق إن حملت قصة إبراهيم على اختبار حاله ، أو زيادة يقينه .

فإن قلت : فما معنى قوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ يونس : 94 ] الآيتين .

فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه ، وأنه من البشر ، فمثل هذا لا يجوز عليه جملة ، بل قد قال ابن عباس ، وغيره : لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يسأل .

ونحوه عن ابن جبير ، والحسن .

وحكى قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أشك ، ولا أسأل وعامة المفسرين على هذا .

واختلفوا في معنى الآية : فقيل : المراد قل يا محمد للشاك : فإن كنت في شك [ يونس : 94 ] الآية . .

قالوا : وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل قوله : قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني [ يونس : 104 ] الآية . .

وقيل : المراد بالخطاب العرب ، وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال : لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] الآية . الخطاب له ، والمراد غيره .

ومثله : فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء [ هود : 109 ] ، ونظيره كثير .

قال بكر بن العلاء : ألا تراه يقول : ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ؟ [ يونس : 95 ] الآية . وهو - صلى الله عليه وسلم - كان المكذب فيما يدعو إليه ، فكيف يكون ممن كذب به ؟ .

[ ص: 461 ] فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره .

ومثل هذه الآية قوله : الرحمن فاسأل به خبيرا [ الفرقان : 59 ] المأمور هاهنا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليسأل النبي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الخبير المسئول ، لا المستخبر السائل .

وقال : إن هذا الشك الذي أمر به غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الذين يقرءون الكتاب إنما هو فيما قصه الله من أخبار الأمم ، لا فيما دعا إليه من التوحيد ، والشريعة .

ومثل هذا قوله - تعالى - : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا [ الزخرف : 45 ] الآية . المراد به المشركون ، والخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله القتيبي .

وقيل معناه : سلنا عمن أرسلنا من قبلك ، فحذف الخافض ، وتم الكلام ، ثم ابتدأ : أجعلنا من دون الرحمن [ الزخرف : 45 ] الآية . إلى آخر الآية ، على طريق الإنكار ، أي ما جعلنا ، حكاه مكي .

وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك ، فكان أشد يقينا من أن يحتاج إلى السؤال .

فروي أنه قال : لا أسأل ، قد اكتفيت قاله ابن زيد .

وقيل : سل أمم من أرسلنا ، هل جاءوهم بغير التوحيد ؟ ، وهو معنى قول مجاهد ، والسدي ، والضحاك ، وقتادة .

والمراد بهذا ، والذي قبله إعلامه - صلى الله عليه وسلم - بما بعثت به الرسل ، وأنه - تعالى - لم يأذن في عبادة غيره لأحد ، ردا على مشركي العرب ، وغيرهم ، في قولهم : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى .

وكذلك قوله - تعالى - : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين [ الأنعام : 114 ] ، أي في عملهم بأنك رسول الله ، وإن لم يقروا بذلك ، وليس المراد به شكه فيما ذكر في أول الآية .

وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم ، أي قل يا محمد لمن امترى في ذلك : لا تكونن من الممترين ، بدليل قوله أول الآية : أفغير الله أبتغي حكما [ الأنعام : 114 ] ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بذلك غيره .

وقيل : هو تقرير ، كقوله - تعالى - : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [ المائدة : 116 ] ، وقد علم أنه لم يقل .

وقيل : معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينة ، وعلما إلى علمك ويقينك .

وقيل : إن كنت تشك فيما شرفناك ، وفضلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب ، ونشر فضائلك .

وحكي عن أبي عبيدة أن المراد : إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا .

فإن قيل : فما معنى قوله : حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا [ يوسف : 110 ] على قراءة التخفيف ؟

قلنا : المعنى في ذلك ما قالته عائشة - رضي الله عنها - : معاذ الله أن تظن ذلك الرسل [ ص: 462 ] بربها ، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم ، وعلى هذا أكثر المفسرين .

وقيل : إن الضمير في [ ظنوا ] عائد على الأتباع ، والأمم ، لا على الأنبياء والرسل ، وهو قول ابن عباس ، والنخعي ، وابن جبير ، وجماعة من العلماء .

وبهذا المعنى قرأ مجاهد [ كذبوا ] بالفتح ، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء ، فكيف بالأنبياء ؟ ! .

وكذلك ما ورد في حديث السيرة ، ومبتدأ الوحي ، من قوله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة : لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله بعد رؤية الملك ، ولكن لعله خشي ألا تحتمل قوته مقاومة الملك ، وأعباء الوحي ، فينخلع قلبه ، أو تزهق نفسه .

وهذا على ما ورد في الصحيح : أنه قاله بعد لقائه الملك ، أو يكون ذلك قبل لقياه ، وإعلام الله له بالنبوة لأول ما عرضت عليه من العجائب ، وسلم عليه الحجر والشجر ، وبدأته المنامات والتباشير ، كما روي في بعض طرق هذا الحديث : أن ذلك كان أولا في المنام ، ثم أري في اليقظة مثل ذلك ، تأنيسا له - عليه السلام - ، لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ، ومشافهة ، فلا يحتمله لأول حالة بنية البشرية .

وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، قالت : ثم حبب إليه الخلاء ، وقالت : إلى أن جاءه الحق ، وهو في غار حراء . . . الحديث .

وعن ابن عباس : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ، ويرى الضوء سبع سنين ، ولا يرى شيئا ، وثمان سنين يوحى إليه .

وقد روى ابن إسحاق عن بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ، وذكر جواره بغار حراء ، قال : فجاءني وأنا نائم فقال : اقرأ ، فقلت ما أقرأ ؟ ، وذكر نحو حديث عائشة في [ ص: 463 ] غطه له ، وإقرائه له : اقرأ باسم ربك الذي خلق [ العلق : 1 ] السورة .

قال : فانصرف عني ، وهببت من نومي كأنما صورت في قلبي ، ولم يكن أبغض إلي من شاعر أو مجنون .

قلت : لا تحدث عني قريش بهذا أبدا ، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه ، فلأقتلنها فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، فرفعت رأسي فإذا جبريل على صورة رجل
. . . وذكر الحديث .

فقد بين في هذا أن قوله لما قال ، وقصده لما قصد ، إنما كان قبل لقاء جبريل - عليهما السلام - ، وقبل إعلام الله - تعالى - له بالنبوة ، وإظهاره واصطفائه له بالرسالة .

ومثله حديث عمرو بن شرحبيل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد خشيت ، والله أن يكون هذا لأمر .

ومن رواية حماد بن سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة : إني لأسمع صوتا ، وأرى ضوءا ، وأخشى أن يكون بي جنون .

وعلى هذا يتأول لو صح قوله في بعض هذه الأحاديث : إن الأبعد شاعر أو مجنون ، وألفاظا يفهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه ، وأنه كان كله في ابتداء أمره ، وقبل لقاء الملك له ، وإعلام الله أنه رسوله ، فكيف وبعض هذه الألفاظ لا تصح طرقها .

وأما بعد إعلام الله - تعالى - له ، ولقائه الملك فلا يصح فيه ريب ، ولا يجوز عليه شك فيما ألقي إليه .

وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقى بمكة من العين قبل أن ينزل عليه ، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه ، فقالت له خديجة : أوجه إليك من يرقيك ؟ قال : أما الآن فلا .

وحديث خديجة ، واختبارها أمر جبريل بكشف رأسها . [ الحديث ] إنما ذلك في حق خديجة لتتحقق صحة نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الذي يأتيه ملك ، ويزول الشك عنها ، لا أنها فعلت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليختبر هو حاله بذلك .

بل قد ورد في حديث عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة أن ورقة أمر خديجة أن تخبر الأمر بذلك .

وفي حديث إسماعيل بن أبي حكيم أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك ؟ قال : نعم ، فلما جاء جبريل أخبرها ، فقالت له : اجلس إلى شقي . . . وذكر الحديث إلى آخره ، وفيه : قالت : ما هذا [ ص: 464 ] بشيطان هذا الملك يا ابن عم ، فاثبت ، وأبشر ، وآمنت به .

فهذا يدل على أنها مستثبتة بما فعلته لنفسها ، ومستظهرة لإيمانها ، لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقول معمر في فترة الوحي : فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كاد يتردى من شواهق الجبال . لا يقدح في هذا الأصل ، لقول معمر عنه فيما بلغنا ، ولم يسنده ، ولا ذكر رواته ، ولا من حدث به ، ولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ولا يعرف مثل هذا إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه ، أو أنه فعل ذلك لما أخرجه من تكذيب من بلغه ، كما قال - تعالى - : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ الكهف : 6 ] .

ويصحح معنى هذا التأويل حديث رواه شريك ، عن محمد بن عبد الله بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله أن المشركين لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واتفق رأيهم على أن يقولوا : إنه ساحر اشتد ذلك عليه ، وتزمل في ثيابه ، وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقال : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ياأيها المدثر [ المدثر : 1 ] .

أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه ، فخشي أن تكون عقوبة من ربه ، ففعل ذلك بنفسه ، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك ، فيعترض به .

ونحو هذا فرار يونس - عليه السلام - خشية تكذيب قومه له ، لما وعدهم به من العذاب ، وقول الله في يونس : فظن أن لن نقدر عليه [ الأنبياء : 87 ] معناه أن لن نضيق عليه .

قال مكي : طمع في رحمة الله ، وأن لا يضيق عليه مسلكه في خروجه .

وقيل : حسن ظنه بمولاه أنه لا يقضي عليه العقوبة .

وقيل : نقدر عليه ما أصابه .

وقد قرئ : نقدر عليه بالتشديد .

وقيل : نؤاخذه بغضبه ، وذهابه .

وقال ابن زيد : معناه : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ على الاستفهام .

ولا يليق أن يظن بنبي أنه يجهل صفة من صفات ربه .

وكذلك قوله : إذ ذهب مغاضبا [ الأنبياء : 87 ] الصحيح مغاضبا لقومه لكفرهم ، وهو قول ابن عباس ، والضحاك ، وغيرهما ، لا لربه عز وجل ، إذ مغاضبة الله معاداة له ، ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين ، فكيف بالأنبياء ؟ !

وقيل : مستحييا من قومه أن يسموه بالكذب أو يقتلوه ، كما ورد في الخبر .

وقيل : مغاضبا لبعض الملوك فيما أمره به من التوجه إلى أمر أمره الله به على لسان نبي آخر ، فقال له يونس : غيري أقوى عليه مني ، فعزم [ ص: 465 ] عليه فخرج لذلك مغاضبا .

وقد روي عن ابن عباس ، أن إرسال يونس ، ونبوته إنما كان بعد أن نبذه الحوت ، واستدل من الآية بقوله : فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف [ الصافات : 145 - 147 ] .

ويستدل أيضا بقوله : ولا تكن كصاحب الحوت [ القلم : 48 ] ، وذكر القصة .

ثم قال : فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [ القلم : 50 ] ، فتكون هذه القصة إذا قبل نبوته .

فإن قيل : فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليغان على قلبي ، فأستغفر الله كل يوم مائة مرة .

وفي طريق : في اليوم أكثر من سبعين مرة .

فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين ، وسوسة أو ريبا ، وقع في قلبه - عليه السلام - ، بل أصل الغين في هذا : ما يتغشى القلب ، ويغطيه ، قاله أبو عبيد ، وأصله من غين السماء ، وهو إطباق الغيم عليها .

وقال غيره : والغين شيء يغشي القلب ، ولا يغطيه كل التغطية ، كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يمنع ضوء الشمس .

وكذلك لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين مرة في اليوم ، إذ ليس يقتضيه لفظه الذي ذكرناه ، وهو أكثر الروايات ، وإنما هذا عدد للاستغفار لا للغين ، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه ، وفترات نفسه ، وسهوها عن مداومة الذكر ، ومشاهدة الحق بما كان - صلى الله عليه وسلم - دفع إليه من مقاساة البشر ، وسياسة الأمة ، ومعاناة الأهل ، ومقاومة الولي ، والعدو ، ومصلحة النفس ، وكلفه من أعباء أداء الرسالة ، وحمل الأمانة ، وهو في كل هذا في طاعة ربه ، وعبادة خالقه ، ولكن لما كان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الخلق عند الله مكانة ، وأعلاهم درجة ، وأتمهم به معرفة ، وكانت حاله عند خلوص قلبه ، وخلو همته ، وتفرده بربه ، وإقباله بكليته عليه ، ومقامه هنالك أرفع حاليه رأى - صلى الله عليه وسلم - حال فترته عنها ، وشغله بسواها ، غضا من علي حاله ، وخفضا من رفيع مقامه ، فاستغفر الله من ذلك . هذا أولى وجوه الحديث ، وأشهرها .

وإلى معنى ما أشرنا به مال كثير من الناس ، وحام حوله ، فقارب ، ولم يرد .

وقد قربنا غامض معناه ، وكشفنا للمستفيد محياه ، وهو مبني على جواز الفترات ، والغفلات ، والسهو في غير طريق البلاغ ، على ما سيأتي .

وذهبت طائفة من أرباب القلوب ، ومشيخة المتصوفة ، ممن قال بتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا جملة ، وأجله أن يجوز عليه في حال سهو أو فترة إلى أن معنى الحديث : ما يهم خاطره ، ويغم فكره من أمر أمته - صلى الله عليه وسلم - ، لاهتمامه بهم ، وكثرة شفقته عليهم ، فيستغفر لهم .

قالوا : وقد يكون الغين هنا على قلبه السكينة تتغشاه ، لقوله - تعالى - : فأنزل الله سكينته عليه [ التوبة : 40 ] ، ويكون استغفاره - صلى الله عليه وسلم - عندها إظهارا للعبودية ، والافتقار .

قال ابن عطاء : استغفاره [ ص: 466 ] وفعله هذا تعريف للأمة بحملهم على الاستغفار .

وقال غيره : ويستشعرون الحذر ، ولا يركنون إلى الأمن .

وقد يحتمل أن تكون هذه الإعانة حالة خشية ، وإعظام تغشى قلبه ، فيستغفر حينئذ شكرا لله ، وملازمة لعبوديته ، كما قال في ملازمة العبادة : أفلا أكون عبدا شكورا .

وعلى هذه الوجوه الأخيرة يحمل ما روي في بعض طرق هذا الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة ، فأستغفر الله .

فإن قلت : فما معنى قوله - تعالى - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ الأنعام : 35 ] .

وقوله لنوح - عليه السلام - : ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ هود : 46 ] ؟ .

فاعلم أنه لا يلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا - صلى الله عليه وسلم - : لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى . وفي آية نوح : لا تكونن ممن يجهل أن وعد الله حق ، لقوله : وإن وعدك الحق إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله ، وذلك لا يجوز على الأنبياء .

والمقصود ، وعظهم ألا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين ، كما قال : إني أعظك . وليس في آية منهما دليل على كونهم على تلك الصفة التي نهاهم عن الكون عليها ، فكيف ؟ ، وآية نوح قبلها : ما ليس لك به علم إني أعظك [ هود : 46 ] . فحمل ما بعدها على ما قبلها أولى ، لأن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن .

وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداء ، فنهاه الله أن يسأله عما طوى عنه علمه ، وأكنه من غيبه من السبب الموجب لهلاك ابنه .

ثم أكمل الله - تعالى - نعمته عليه بإعلامه ذلك بقوله : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح . [ هود : 46 ] حكى معناه مكي .

كذلك أمر نبينا في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه ، ولا يحرج عند ذلك ، فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر . حكاه ابن فورك .

وقيل : معنى الخطاب لأمة محمد ، أي فلا تكونوا من الجاهلين . حكاه أبو محمد مكي ، وقال : مثله في القرآن كثير .

فبهذا الفضل وجب القول بعصمة الأنبياء منه بعد النبوة قطعا .

فإن قلت : فإذا قررت عصمتهم من هذا ، وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك فما معنى إذا وعيد الله لنبينا - صلى الله عليه وسلم - على ذلك إن فعله ، وتحذيره منه ، كقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] الآية . .

وقوله - تعالى - : [ ص: 467 ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك [ يونس : 106 ] الآية . .

وقوله - تعالى - : إذا لأذقناك ضعف الحياة [ الإسراء : 75 ] الآية . .

وقوله : لأخذنا منه باليمين [ الحاقة : 45 ] .

وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ الأنعام : 116 ] .

وقوله : فإن يشأ الله يختم على قلبك [ الشورى : 24 ] .

وقوله : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ المائدة : 67 ] .

وقوله : اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين [ الأحزاب : 1 ] .

فاعلم وفقنا الله ، وإياك أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح ، ولا يجوز عليه ، ألا يبلغ وأن يخالف أمر ربه ، ولا أن يشرك به ، ولا يتقول على الله ما لا يحب ، أو يفتري عليه ، أو يضل أو يختم على قلبه ، أو يطيع الكافرين ، لكن يسر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين ، وأن إبلاغه إن لم يكن بهذه السبيل فكأنه ما بلغ .

وطيب نفسه ، وقوى قلبه بقوله : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، كما قال لموسى ، وهارون : لا تخافا [ طه : 46 ] ، لتشتد بصائرهم في الإبلاغ ، وإظهار دين الله ، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس .

وأما قوله - تعالى - : ولو تقول علينا بعض الأقاويل [ الحاقة : 44 ] الآية . .

وقوله : إذا لأذقناك ضعف الحياة [ الإسراء : 75 ] فمعناه أن هذا جزاء من فعل هذا وجزاؤك لو كنت ممن يفعله ، وهو لا يفعله .

وكذلك قوله : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ الأنعام : 116 ] ، فالمراد غيره ، كما قال : إن تطيعوا الذين كفروا [ آل عمران : 149 ] الآية . .

وقوله : فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور [ الشورى : 24 ] ، و لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] ، وما أشبهه ، فالمراد غيره ، وأن هذه حال من أشرك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه هذا .

وقوله : اتق الله ولا تطع الكافرين [ الأحزاب : 1 ] فليس فيه أنه أطاعهم ، والله ينهاه عما يشاء ، ويأمره بما يشاء ، كما قال : ولا تطرد الذين يدعون ربهم [ الأنعام : 52 ] الآية . .

وما كان طردهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولا كان من الظالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية