صفحة جزء
الفصل الثاني : عصمتهم من هذا قبل النبوة

وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف ، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله ، وصفاته ، والتشكك في شيء من ذلك .

وقد تعاضدت الأخبار ، والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ، ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ، ونفحات ألطاف السعادة ، كما نبهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول من كتابنا هذا .

ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ ، واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك . ومستند هذا الباب النقل ، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله .

وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا بكل ما افترته ، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها ، واختلقته ، مما نص الله - تعالى - عليه ، أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم [ ص: 468 ] برفضه آلهته ، وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه .

ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، ويتلونه في معبوده محتجين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم ، وما كان يعبد آباؤهم من قبل .

ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل ، وما سكتوا عنه ، كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها كما حكاه الله عنهم .

وقد استدل القاضي القشيري على تنزيههم عن هذا بقوله - تعالى - : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك [ الأحزاب : 7 ] الآية . .

وبقوله - تعالى - : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين [ آل عمران : 81 ] - إلى قوله - : لتؤمنن به ولتنصرنه [ آل عمران : 81 ] .

قال : وطهره الله في الميثاق .

وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ، ثم يأخد ميثاق النبيين بالإيمان به ، ونصره قبل مولده بدهور ، ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب . هذا ما لا يجوزه إلا ملحد .

هذا معنى كلامه .

وكيف يكون ذلك ، وقد أتاه جبريل - عليه السلام - ، وشق قلبه صغيرا ، واستخرج منه علقة ، وقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله ، وملأه حكمة ، وإيمانا ، كما تظاهرت به أخبار المبدأ .

ولا يشبه عليك بقول إبراهيم في الكوكب ، والقمر ، والشمس : هذا ربي فإنه قد قيل : كان هذا في سن الطفولية ، وابتداء النظر ، والاستدلال ، وقبل لزوم التكليف .

وذهب معظم الحذاق من العلماء المفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقومه ، ومستدلا عليهم .

وقيل : معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار ، والمراد : فهذا ربي .

قال الزجاج : قوله : هذا ربي [ الأنعام : 76 ] أي على قولكم ، كما قال : أين شركائي [ القصص : 74 ] أي عندكم .

ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك ، ولا أشرك قط بالله طرفة عين : قول الله عز وجل عنه : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [ الشعراء : 70 ] .

ثم قال : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 75 - 77 ] .

وقال : إذ جاء ربه بقلب سليم [ الصافات : 74 ] ، أي من الشرك .

وقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ إبراهيم : 35 ] .

فإن قلت : فما معنى قوله : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ الأنعام : 77 ] .

قيل : إنه إن لم يؤيدني الله بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم ، وعبادتكم ، على معنى الإشفاق ، والحذر ، وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال .

فإن قلت : فما معنى قوله : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ثم قال بعد عن الرسل : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] ، فلا يشكل عليك لفظة العود ، وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ، فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس له ابتداء بمعنى الصيرورة ، كما جاء [ ص: 469 ] في حديث الجهنميين : [ عادوا حمما ] ، ولم يكونوا قبل كذلك .

ومثله قول الشاعر :


تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا



وما كان قبل كذلك .

فإن قلت : فما معنى قوله : ووجدك ضالا فهدى [ الضحى : 7 ] ، فليس هو من الضلال الذي هو الكفر ، قيل : ضالا عن النبوة فهداك إليها ، قاله الطبري .

وقيل : وجدك بين أهل الضلال ، فعصمك من ذلك ، وهداك للإيمان وإلى إرشادهم .

ونحوه عن السدي ، وغير واحد .

وقيل : ضالا عن شريعتك ، أي لا تعرفها فهداك إليها .

والضلال هنا التحير ، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يخلو بغار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه ، ويتسرع به حتى هداه إلى الإسلام ، قال معناه القشيري .

وقيل : لا تعرف الحق ، فهداك إليه . وهذا مثل قوله - تعالى - : وعلمك ما لم تكن تعلم [ النساء : 113 ] الآية . قاله علي بن عيسى .

قال ابن عباس : لم تكن له ضلالة معصية .

وقيل : هدى ، أي بين أمرك بالبراهين .

وقيل : وجدك ضالا بين مكة والمدينة ، فهداك إلى المدينة .

وقيل : المعنى ، وجدك فهدى بك ضالا .

وعن جعفر بن محمد : ووجد ضالا عن محبتي لك في الأزل ، أي لا تعرفها ، فمننت عليك بمعرفتي .

وقرأ الحسن بن علي : ووجدك ضالا فهدى ، أي اهتدى بك .

وقال ابن عطاء : ووجدك ضالا محبا لمعرفتي . والضال المحب كما قال : إنك لفي ضلالك القديم [ يوسف : 95 ] ، أي محبتك القديمة ، ولم يريدوا هاهنا في الدين ، إذ لو قالوا ذلك في نبي الله لكفروا .

ومثله عند هذا قوله : إنا لنراها في ضلال مبين أي محبة بينة .

وقال الجنيد : ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل إليك فهداك لبيانه كقوله : وأنزلنا إليك الذكر [ النحل : 44 ] الآية . .

وقيل : ووجدك لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك ، فهدى بك السعداء ، ولا أعلم أحدا قال من المفسرين فيها : ضالا عن الإيمان .

وكذلك في قصة موسى - عليه السلام - قوله : فعلتها إذا وأنا من الضالين [ الشعراء : 20 ] ، أي من المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد ، قاله ابن عرفة .

وقال الأزهري : معناه من الناسين .

وقد قيل ذلك في قوله : [ ص: 470 ] ووجدك ضالا فهدى أي ناسيا ، كما قال - تعالى - : أن تضل إحداهما [ البقرة : 282 ] . فإن قلت : فما معنى قوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ الشورى : 52 ] .

فالجواب أن السمرقندي قال : معناه : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان .

وقال بكر القاضي نحوه ، قال : ولا الإيمان الذي هو الفرائض ، والأحكام ، قال : فكان قبل مؤمنا بتوحيده ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا ، وهو أحسن وجوهه .

فإن قلت : فما معنى قوله : وإن [ يوسف : 3 ] ؟ فاعلم أنه ليس بمعنى قوله : والذين هم عن آياتنا غافلون [ يونس : 7 ] ، بل حكى أبو عبد الله الهروي أن معناه لمن الغافلين عن قصة يوسف ، إذ لم تعلمها إلا بوحينا .

وكذلك الحديث الذي يرويه عثمان بن أبي شيبة بسنده عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه ، أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه . فقال الآخر : كيف أقوم خلفه ، وعهده باستلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد .

فهذا حديث أنكره أحمد بن حنبل جدا ، وقال : هو موضوع ، أو شبيه بالموضوع .

وقال الدارقطني : يقال إن عثمان وهم في إسناده .

والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده ، فلا يلتفت إليه .

والمعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه عند أهل العلم من قوله : بغضت إلي الأصنام .

وقوله في الحديث الآخر الذي روته أم أيمن حين كلمه عمه ، وآله في حضور بعض أعيادهم ، وعزموا عليه فيه بعد كراهته لذلك ، فخرج معهم ، ورجع مرعوبا ، فقال : كلما دنوت منها من صنم تمثل لي شخص أبيض طويل يصيح بي : وراءك ، لا تمسه ، فما شهد بعد لهم عيدا .

وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب ، وهو صبي ، ورأى فيه علامات النبوة ، فاختبره بذلك ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تسألني بهما ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما .

فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه . فقال : سل عما بدا لك
.

وكذلك المعروف من سيرته - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 471 ] وتوفيق الله له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج ، فكان يقف هو بعرفة ، لأنه كان موقف إبراهيم - عليه السلام - .

التالي السابق


الخدمات العلمية