صفحة جزء
الفصل الرابع : العصمة من الشيطان

واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان وكفايته منه ، لا في جسمه [ ص: 473 ] بأنواع الأذى ، ولا على خاطره بالوساوس .

وقد أخبرنا القاضي الحافظ أبو علي - رحمه الله - قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون العدل ، حدثنا أبو بكر البرقاني ، وغيره ، حدثنا أبو الحسن الدارقطني ، حدثنا إسماعيل الصفار ، حدثنا عيسى الترقفي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسرور ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة .

قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي ، ولكن الله - تعالى - أعانني عليه فأسلم
. زاد غيره عن منصور : فلا يأمرني إلا بخير .

وعن عائشة بمعناه .

وروي : فأسلم بضم الميم ، أي فأسلم أنا منه .

وصحح بعضهم هذه الرواية ، ورجحها .

وروي : فأسلم يعني القرين أنه انتقل من حال كفره إلى الإسلام ، فصار لا يأمر إلا بخير ، كالملك .

وهو ظاهر الحديث .

ورواه بعضهم : فاستسلم .

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : فإذا كان هذا حكم شيطانه وقرينه المسلط على بني آدم ، فكيف بمن بعد منه ، ولم يلزم صحبته ، ولا أقدر على الدنو منه ؟ .

وقد جاءت الآثار بتصدي الشياطين له في غير موطن ، رغبة في إطفاء نوره ، وإماتة نفسه ، وإدخال شغل عليه ، إذ يئسوا من إغوائه فانقلبوا خاسرين ، كتعرضه له في صلاته ، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأسره .

ففي الصحاح : قال أبو هريرة ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان عرض لي .

قال عبد الرزاق : في صورة هر ، فشد علي يقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه ، فذعته . ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا تنظرون إليه ، فذكرت قول أخي سليمان
رب اغفر لي وهب لي ملكا [ ص : 35 ] الآية ، فرده الله خاسئا
.

وفي حديث أبي الدرداء عنه - صلى الله عليه وسلم - : إن عدو الله إبليس جاءني بشهاب من نار ليجعله في وجهي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وذكر تعوذه بالله منه ، ولعنه له ، ثم أردت آخذه ، وذكر نحوه ،

[ ص: 474 ] وقال : لأصبح موثقا يتلاعب به ولدان أهل المدينة
.

وكذلك في حديثه في الإسراء ، وطلب عفريت له بشعلة نار ، فعلمه جبريل ما يتعوذ به منه ، ذكره في الموطأ ، ولما لم يقدر على أذاه بمباشرته تسبب بالتوسط إلى عداه ، كقضيته مع قريش في الائتمار بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتصوره في صورة الشيخ النجدي .

ومرة أخرى في غزوة بدر في صورة سراقة بن مالك ، وهو قوله : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ الأنفال : 48 ] الآية . .

ومرة ينذر بشأنه عند بيعة العقبة .

وكل هذا فقد كفاه الله أمره ، وعصمه ضره ، وشره .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إن عيسى - عليه السلام - كفي من لمسه ، فجاء ليطعن بيده في خاصرته حين ولد ، فطعن في الحجاب .

وقال - صلى الله عليه وسلم - حين لد في مرضه ، وقيل له : خشينا أن يكون بك ذات الجنب فقال : إنها من الشيطان ولم يكن الله ليسلطه علي .

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى - : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله [ الأعراف : 200 ] فقد قال بعض المفسرين : إنها راجعة إلى قوله : وأعرض عن الجاهلين [ الأعراف : 199 ] ، ثم قال : وإما ينزغنك ، أي يستخفك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم فاستعذ بالله - تعالى - .

وقيل : النزغ هاهنا الفساد ، كما قال - تعالى - : من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي [ يوسف : 100 ] .

وقيل : ينزغنك : يغرينك ، ويحركنك . والنزغ : أدنى الوسوسة ، فأمره الله - تعالى - أنه متى تحرك عليه غضب على عدوه ، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ، لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيذ منه ، فيكفى أمره ، ويكون سبب تمام عصمته ، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له ، ولم يجعل به قدرة عليه .

وقد قيل في هذه الآية غير هذا .

وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك ، ويلبس عليه ، لا في أول الرسالة ، ولا بعدها .

والاعتماد في ذلك دليل المعجزة ، بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من الله الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضروري يخلقه الله له ، أو ببرهان يظهره لديه ، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا ، لا مبدل لكلماته .

فإن قيل : فما معنى قوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته [ الحج : 52 ] الآية . .

فاعلم أن للناس في معنى هذه الآية أقاويل منها السهل ، والوعث والسمين ، والغث وأولى ما يقال فيها [ ص: 475 ] ما عليه الجمهور من المفسرين : أن التمني هاهنا التلاوة ، وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار من الدنيا لليالي حتى يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه ، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله ، وينسخه ، ويكشف لبسه ، ويحكم آياته .

وسيأتي الكلام على هذه الآية بأشبع من هذا إن شاء الله .

وقد حكى السمرقندي إنكار قول من قال بتسليط الشيطان على ملك سليمان وغلبته عليه ، وأن مثل هذا لا يصح .

وقد ذكرنا قصة سليمان مبينة بعد هذا ومن قال : إن الجسد هو الولد الذي ولد له .

وقال أبو محمد مكي في قصة أيوب : وقوله : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [ ص : 41 ] إنه لا يجوز لأحد أن يتأول أن الشيطان هو الذي أمرضه ، وألقى الضر في بدنه ، ولا يكون ذلك إلا بفعل الله وأمره ، ليبتليهم ويثيبهم .

قال مكي : وقيل : إن الذي أصابه به الشيطان ما وسوس به إلى أهله .

فإن قلت : فما معنى قوله - تعالى - عن يوشع : وما أنسانيه إلا الشيطان [ الكهف : 63 ] .

وقوله عن يوسف : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ يوسف : 42 ] .

وقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، حين نام على الصلاة يوم الوادي : إن هذا واد به شيطان .

وقول موسى - عليه السلام - في وكزته : هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] .

فاعلم أن هذا الكلام قد يرد في هذا على مورد مستمر كلام العرب في وصفهم كل قبيح ، من شخص أو فعل بالشيطان أو فعله ، كما قال - تعالى - : طلعها كأنه رءوس الشياطين [ الصافات : 65 ] .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : فليقاتله فإنما هو شيطان .

وأيضا فإن قول يوشع لا يلزمنا الجواب عنه ، إذ لم يثبت له في ذلك الوقت نبوة مع موسى ، قال الله - تعالى - : وإذ قال موسى لفتاه [ الكهف : 60 ] .

والمروي أنه إنما بعد موت موسى ، وقيل : قبيل موته .

وقول موسى كان قبل نبوته بدليل القرآن .

وقصة يوسف قد ذكر أنها كانت قبل نبوته .

وقد قال المفسرون في قوله - تعالى - : فأنساه الشيطان [ يوسف : 42 ] قولين : أحدهما : أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه أحد صاحبي السجن ، وربه الملك ، أي أنساه أن يذكر للملك شأن يوسف - عليه السلام - .

وأيضا فإن مثل هذا من فعل الشيطان ليس فيه تسلط على يوسف ، ويوشع بوساوس ، ونزغ ، وإنما هو بشغل خواطرهما بأمور أخر ، وتذكيرهما من أمورهما ما ينسيهما ما نسيا .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا واد به شيطان . فليس فيه ذكر تسلطه عليه ، ولا وسوسته له ، بل إن كان بمقتضى ظاهره فقد بين أمر ذلك الشيطان [ ص: 476 ] بقوله : إن الشيطان أتى بلالا ، فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام .

فاعلم أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر .

هذا إن جعلنا قوله : إن هذا واد به شيطان تنبيها على سبب النوم عن الصلاة .

وأما إن جعلناه تنبيها على سبب الرحيل عن الوادي ، وعلة لترك الصلاة به ، وهو دليل مساق حديث زيد بن أسلم فلا اعتراض به في هذا الباب ، لبيانه وارتفاع إشكاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية