صفحة جزء
الفصل العاشر : عصمة الأنبياء من المعاصي

وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها آخرون . والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع .

وقد اختلف الناس في حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه ، هل كان متبعا لشرع قبله أم لا ؟ فقال جماعة : لم يكن متبعا لشيء ، [ ص: 491 ] وهذا قول الجمهور ، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ، ولا معتبرة في حقه حينئذ ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر ، والنواهي ، وتقرر الشريعة .

ثم اختلفت حجج القائلين بهذه المقالة عليها ، فذهب سيف السنة ، ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل ، وموارد الخبر من طريق السمع ، وحجته أنه لو كان ذلك لنقل ، ولما أمكن كتمه وستره في العادة ، إذ كان من مهم أمره ، وأولى ما اهتبل به من سيرته ، ولفخر به أهل تلك الشريعة ، ولا احتجوا به عليه ، ولم يؤثر شيء من ذلك جملة .

وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا ، قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا ، وبنوا هذا على التحسين ، والتقبيح ، وهي طريقة غير سديدة ، واستناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى وأظهر .

وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره - صلى الله عليه وسلم - ، وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، ولا استبان في أحدهما طريق النقل ، وهو مذهب أبي المعالي .

وقالت فرقة ثالثة : إنه كان عاملا بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه وأحجم ، وجسر بعضهم على التعيين وصمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع ، فقيل نوح ، وقيل إبراهيم ، وقيل موسى ، وقيل عيسى - صلوات الله عليهم - . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .

والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، وأبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، ولم يخف جملة ، ولا حجة لهم في أنعيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حجة أيضا للآخر في قوله : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] ، ولا للآخرين في قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا [ الشورى : 13 ] ، فمحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] .

وقد سمى الله - تعالى - فيهم من لم يبعث ، ولم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول : إنه ليس برسول .

وقد سمى الله - تعالى - جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد ، وعبادة الله - تعالى - .

وبعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، أو يخالفون نبيهم ؟ .

أما من منع الاتباع عقلا فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له ، وتقرر [ ص: 492 ] اتبعه . ومن قال بالوقف فعلى أصله . ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله يلتزمه بمساق حجته في كل نبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية