صفحة جزء
الفصل الثاني عشر : في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه - صلى الله عليه وسلم -

وقد قدمنا في الفصول قبل هذا ما يجوز فيه عليه السهو - صلى الله عليه وسلم - ، وما يمتنع ، وأحلناه في الأخبار جملة ، وفي الأقوال الدينية قطعا ، وأجزنا وقوعه في الأفعال الدينية على الوجه الذي رتبناه ، وأشرنا إلى ما ورد في ذلك ، ونحن نبسط القول فيه ، ونقول : الصحيح من الأحاديث الواردة في سهوه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ثلاثة أحاديث :

أولها : حديث ذي اليدين في السلام من اثنتين .

الثاني : حديث ابن بحينة في القيام من اثنتين .

الثالث : حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا .

وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، وحكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، وأرفع للاحتمال ، وشرطه أنه لا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، وتظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان والسهو في الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم - غير مضاد للمعجزة ، ولا قادح في التصديق ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .

وقال : رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطهن ، ويروى : أنسيتهن .

[ ص: 494 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : إني لأنسى ، أو أنسى ، لأسن .

قيل : هذا اللفظ شك من الراوي . وقد روي : إني لا أنسى ، ولكن أنسى لأسن .

وذهب ابن نافع ، وعيسى بن دينار أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله .

قال القاضي أبو الوليد الباجي : يحتمل ما قالاه أن يريد أني أنسى في اليقظة ، وأنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء ، والسهو ، وأنسى مع إقبالي عليه ، وتفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، ونفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر .

وذهبت طائفة من أصحاب المعاني ، والكلام على الحديث إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهو في الصلاة ، ولا ينسى ، لأن النسيان ذهول ، وغفلة ، وآفة ، قال : والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عنها ، والسهو شغل ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو في صلاته ، ويشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها .

واحتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى .

وذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، وقالوا : إن سهوه - عليه السلام - كان عمدا ، وقصدا ليسن .

وهذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون متعمدا ساهيا في حال . ولا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله : إني لأنسى أو أنسى . وقد أثبت أحد الوصفين ، ونفى مناقضة التعمد ، والقصد ، وقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون .

وقد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، وهو أبو المظفر الإسفراييني ، ولم يرتضه غيره منهم ، ولا أرتضيه ، ولا حجة لهاتين الطائفتين في قوله : إني لا أنسى ، ولكن أنسى ، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، وإنما فيه نفي لفظه ، وكراهة لقبه ، كقوله : بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، ولكن نسي ، أو نفي الغفلة ، وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، لكن شغل بها عنها ، ونسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق حتى خرج وقتها ، وشغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة .

وقيل : إن الذي ترك يوم الخندق أربع صلوات : الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وبه احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن وهو مذهب الشاميين .

والصحيح أن حكم صلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له .

فإن قلت : فما تقول في نومه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة يوم الوادي ، وقد قال : إن عيني تنامان [ ص: 495 ] ولا ينام قلبي .

فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه ، وعينيه في غالب الأوقات ، وقد يندر منه غير ذلك ، كما يندر من غيره خلاف عادته .

ويصحح هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا .

وقول بلال فيه : ما ألقيت علي نومة مثلها قط ، ولكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، وتأسيس سنة ، وإظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم .

الثاني : أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروسا ، وأنه كان ينام حتى ينفخ ، وحتى يسمع غطيطه ثم يصلي ، ولا يتوضأ . وحديث ابن عباس المذكور فيه وضوءه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم إذ لعل ذلك لملامسة الأهل أو لحدث آخر ، فكيف وفي آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى ، ولم يتوضأ .

وقيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينه عن رؤية الشمس . وليس هذا من فعل القلب ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا .

فإن قيل : فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال : اكلأ لنا الصبح .

فقيل في الجواب : إنه كان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - التغليس بالصبح ، ومراعاة أول الفجر لا تصح ممن نامت عينه ، إذ هو ظاهر يدرك بالجوارح ، فوكل بلالا بمراعاة أوله ليعلمه بذلك ، كما لو شغل بشغل غير النوم عن مراعاته .

فإن قيل : فما معنى نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القول : نسيت ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إني أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني . وقال : لقد أذكرني كذا ، وكذا آية كنت أنسيتها .

فاعلم أكرمك الله أنه [ ص: 496 ] لا تعارض في هذه الألفاظ ، أما نهيه عن أن يقال نسيت آية كذا فمحمول على ما نسخ حفظه من القرآن أي إن الغفلة في هذا لم تكن منه ، ولكن الله - تعالى - اضطره إليها ليمحو ما يشاء ، ويثبت . وما كان من سهو أو غفلة من قبله تذكرها صلح أن يقال فيه : أنسى .

وقد قيل : إن هذه منه - صلى الله عليه وسلم - على طريق الاستحباب أن يضيف الفعل إلى خالقه ، والآخر على طريق الجواز لاكتساب العبد فيه ، وإسقاطه - صلى الله عليه وسلم - لما أسقط من هذه الآيات جائز عليه بعد بلاغ ما أمر ببلاغه ، وتوصيله إلى عباده ، ثم يستذكرها من أمته ، أو من قبل نفسه ، إلا ما قضى الله نسخه ، ومحوه من القلوب ، وترك استذكاره .

وقد يجوز أن ينسى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هذا سبيله كرة ، ويجوز أن ينسيه منه قبل البلاغ ما لا يغير نظما ، ولا يخلط حكما ، مما لا يدخل خللا في الخبر ، ثم يذكره إياه ، ويستحيل دوام نسيانه له ، لحفظ الله كتابه ، وتكليفه بلاغه .

التالي السابق


الخدمات العلمية