صفحة جزء
الفصل الثالث عشر : في الرد على من أجاز عليهم الصغائر ، والكلام على ما احتجوا به في ذلك

اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء ، والمحدثين ، ومن شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن والحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر ، وخرق الإجماع ، وهو ما لا يقول به مسلم ، فكيف ، وكل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك ، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا ، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديما ، وقامت الدلالة على خطأ قولهم ، وصحة غيره وجب تركه ، والمصير إلى ما صح .

وها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .

فمن ذلك قوله - تعالى - لنبينا - صلى الله عليه وسلم - : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] .

وقوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ محمد : 19 ] .

وقوله : ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك [ الشرح : 2 - 3 ] الآية . .

وقوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] الآية . .

وقوله : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] .

وقوله : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 - 2 ] الآية .

وما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] .

وقوله : فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [ سورة الأعراف 7 الآية : 190 ] .

وقوله : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ الأعراف : 23 ] .

وقوله عن يونس : سبحانك إني كنت من الظالمين [ الأنبياء : 87 ] .

وما ذكره من قصة داود ، وقوله : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب [ ص : 25 ] .

وقوله : ولقد همت به وهم بها [ يوسف : 24 ] ، وما قص من قصته مع إخوته .

وقوله عن موسى : فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] .

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه : اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما [ ص: 497 ] أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ونحوه من أدعيته - صلى الله عليه وسلم - .

وذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .

وقوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .

وفي حديث أبي هريرة : إني لأستغفر الله ، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . وقوله - تعالى - عن نوح : وإلا تغفر لي وترحمني [ هود : 47 ] الآية . .

وقد كان قال الله له : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ هود : 37 ] .

وقال عن إبراهيم : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ الشعراء : 82 ] . وقوله عن موسى : تبت إليك [ الأعراف : 143 ] .

وقوله : ولقد فتنا سليمان [ ص : 34 ] . . . إلى ما أشبه هذه الظواهر .

فأما احتجاجهم بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة ، وبعدها .

وقيل : المراد ما وقع لك من ذنب ، وما لم يقع أعلمه أنه مغفور له .

وقيل : المتقدم ما كان قبل النبوة ، والمتأخر عصمتك بعدها ، حكاه أحمد بن نصر .

وقيل : المراد بذلك أمته .

وقيل : المراد ما كان عن سهو ، وغفلة ، وتأويل ، حكاه الطبري ، واختاره القشيري .

وقيل : ما تقدم لأبيك آدم ، وما تأخر من ذنوب أمتك ، حكاه السمرقندي ، والسلمي عن ابن عطاء .

وبمثله ، والذي قبله يتأول قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ محمد : 19 ] .

قال مكي : مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا هي مخاطبة لأمته ، وقيل : إن [ ص: 498 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أن يقول : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [ الأحقاف : 9 ] سر بذلك الكفار ، فأنزل الله - تعالى - : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] الآية ، وبمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها ، قاله ابن عباس ، فمقصد الآية : إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان . قال بعضهم : المغفرة هاهنا تبرئة من العيوب .

وأما قوله : ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك [ الشرح : 2 - 3 ] ، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة ، وهو قول ابن زيد ، والحسن ، ومعنى قول قتادة .

وقيل : معناه أنه حفظ قبل نبوته منها وعصم ، ولولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه السمرقندي .

وقيل : المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلغها ، حكاه الماوردي ، والسلمي 0 .

وقيل : حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية ، حكاه مكي .

وقيل : ثقل شغل سرك ، وحيرتك ، وطلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك ، حكى معناه القشيري .

وقيل المعنى : خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت ، وحفظ عليك .

ومعنى أنقض ظهرك ، أي كاد ينقضه ، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور فعلها قبل نبوته ، وحرمت عليه بعد النبوة ، فعدها أوزارا ، وثقلت عليه ، وأشفق منها .

أو يكون الوضع عصمة الله له ، وكفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .

أو يكون من ثقل الرسالة ، أو ما ثقل عليه ، وشغل قلبه من أمور الجاهلية ، وإعلام الله - تعالى - له بحفظ ما استحفظه من وحيه .

وأما قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] فأمر لم يتقدم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه من الله - تعالى - نهي فيعد معصية ، ولا عده الله - تعالى - عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة . وغلطوا من ذهب إلى ذلك ، قال نفطويه : وقد حاشاه الله - تعالى - من ذلك ، بل كان مخيرا في أمرين ، قالوا : وقد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي ، فكيف ، وقد قال الله - تعالى - : فأذن لمن شئت منهم [ النور : 62 ] . فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : عفا الله لكم عن صدقة الخيل [ ص: 499 ] والرقيق . ولم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك .

ونحوه للقشيري ، قال : وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب ، ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنبا .

قال الداودي : روي أنها تكرمة .

وقال مكي : هو استفتاح كلام ، مثل أصلحك الله وأعزك .

وحكى السمرقندي أن معناه عافاك الله .

وأما قوله في أسارى بدر : تريدون عرض الدنيا [ الأنفال : 67 ] الآية . . فليس فيه إلزام ذنب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل فيه بيان ما خص به ، وفضل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لنبي قبلي .

فإن قيل : فما معنى قوله - تعالى - : تريدون عرض الدنيا [ الأنفال : 67 ] الآية .

قيل المعنى : الخطاب لمن أراد ذلك منهم ، وتجرد غرضه لغرض الدنيا وحده ، والاستكثار منها ، وليس المراد بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا علية أصحابه ، بل قد روي عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر ، واشتغل الناس بالسلب ، وجمع الغنائم عن القتال ، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو .

ثم قال - تعالى - : لولا كتاب من الله سبق [ الأنفال : 68 ] ، فاختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل : معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدا إلا بعد النهي لعذبتكم .

فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .

وقيل المعنى : لولا إيمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم .

ويزاد هذا القول تفسيرا وبيانا بأن يقال : لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى .

وقيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .

فهذا كله ينفي الذنب والمعصية ، لأن من فعل ما أحل له لم يعص ، قال الله - تعالى - : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا [ الأنفال : 69 ] . وقيل : بل كان - صلى الله عليه وسلم - قد خير في ذلك ، وقد روي عن علي - رضي الله عنه - ، قال : جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأسارى ، [ ص: 500 ] إن شاءوا القتل ، وإن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم .

فقالوا : الفداء ، ويقتل منا .

وهذا دليل على صحة ما قلناه ، وأنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه ، ولكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل ، فعوتبوا على ذلك ، وبين لهم ضعف اختيارهم ، وتصويب اختيار غيرهم ، وكلهم غير عصاة ، ولا مذنبين ، وإلى نحو هذا أشار الطبري .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القضية : لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر . إشارة إلى هذا من تصويب رأيه ، ورأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين ، وإظهار كلمته ، وإبادة عدوه ، وأن هذه القضية لو استوجبت عذابا نجا منه عمر ومثله ، وعين عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ، ولكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذابا لحله لهم فيما سبق .

وقال الداودي : والخبر بهذا لا يثبت ، ولو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بما لا نص فيه ، ولا دليل من نص ، ولا جعل الأمر فيه إليه ، وقد نزهه الله - تعالى - عن ذلك .

وقال القاضي بكر بن العلاء : أخبر الله - تعالى - نبيه في هذه الآية أن تأويله ، وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم ، والفداء ، وقد كان قبل هذا فادوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه ، فما عتب الله ذلك عليهم ، وذلك قبل بدر بأزيد من عام .

فهذا كله يدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة ، وعلى ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله - تعالى - عليهم ، لكن الله - تعالى - أراد لعظم أمر بدر ، وكثرة أسراها ، والله أعلم إظهار نعمته ، وتأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم ، لا على وجه عتاب وإنكار وتذنيب . هذا معنى كلامه .

وأما قوله : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 ] الآيات .

فليس فيه إثبات ذنب له - صلى الله عليه وسلم - ، بل إعلام الله أن ذلك المتصدى له ممن لا يتزكى ، وأن الصواب والأولى كان لو كشف لك حال الرجلين الإقبال على الأعمى .

وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعل ، وتصديه لذلك الكافر ، كان طاعة لله ، وتبليغا عنه ، واستئلافا له ، كما شرعه الله له لا معصية ولا مخالفة له .

وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين ، وتوهين أمر الكافر عنده ، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله : وما عليك ألا يزكى وقيل : أراد بعبس وتولى الكافر الذي كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله أبو تمام .

[ ص: 501 ] وأما قصة آدم - عليه السلام - ، وقوله - تعالى - : فأكلا منها [ طه : 121 ] بعد قوله : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ البقرة : 35 ] . وقوله ألم أنهكما عن تلكما الشجرة [ الأعراف : 22 ] ، وتصريحه - تعالى - عليه بالمعصية بقوله - تعالى - : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] ، أي جهل .

وقيل : أخطأ ، فإن الله - تعالى - قد أخبر بعذره بقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] ، قال ابن زيد : نسي عداوة إبليس له ، وما عهد الله إليه من ذلك بقوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ طه : 117 ] الآية .

وقيل : نسي ذلك بما أظهر لهما .

وقال ابن عباس : إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي .

وقيل : لم يقصد المخالفة استحلالا لها ، ولكنهما اغترا بحلف إبليس لهما : إني لكما لمن الناصحين [ الأعراف : 21 ] ، وتوهما أن أحدا لا يحلف بالله حانثا .

وقد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار .

وقال ابن جبير : حلف بالله لهما حتى غرهما ، والمؤمن يخدع .

وقد قيل : نسي ، ولو لم ينو المخالفة ، فلذلك قال : ولم نجد له عزما أي قصدا للمخالفة .

وأكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم والصبر .

وقيل : كان عند أكله سكران وهذا فيه ضعف ، لأن الله - تعالى - وصف خمر الجنة أنها لا تسكر ، فإذا كان ناسيا لم تكن معصية ، وكذلك إن كان ملبسا عليه غالطا ، إذ الاتفاق على خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف .

قال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره : إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة ، ودليل ذلك قوله - تعالى - : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] ، فذكر أن الاجتباء ، والهداية كانا بعد العصيان .

وقيل : بل أكلها متأولا ، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس ، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ ، لا من المخالفة .

وقيل : تأول أن الله لم ينهه عنها نهي تحريم .

فإن قيل : فعلى كل حال فقد قال الله - تعالى - : وعصى آدم ربه وقال : فتاب عليه وهدى [ طه : 121 ] . وقوله في حديث الشفاعة : ويذكر ذنبه ، وقال : إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت ، فسيأتي الجواب عنه ، وعن أشباهه مجملا آخر الفصل إن شاء الله .

وأما قصة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفا ، وليس في قصة يونس نص على ذنب ، وإنما فيها : أبق ، وذهب مغاضبا ، وقد تكلمنا عليه .

وقيل : إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فارا من نزول العذاب .

وقيل : بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم [ ص: 502 ] قال : والله لا ألقاهم بوجه كذاب أبدا .

وقيل : بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .

وقيل : ضعف عن حمل أعباء الرسالة . وقد تقدم الكلام أنه لم يكذبهم .

وهذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .

وقوله : إذ أبق إلى الفلك المشحون [ الصافات : 140 ] قال المفسرون تباعد .

وأما قوله : إني كنت من الظالمين [ الأنبياء : 87 ] ، فالظلم ، وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه ، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه ، أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه . وقد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ .

وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم ، وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا ، واستحقاقا . ومثل هذا قول آدم وحواء : ربنا ظلمنا أنفسنا [ الأعراف : 23 ] ، إذ كانا السبب في وضعهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه ، وإخراجهما من الجنة ، وإنزالهما إلى الأرض .

وأما قصة داود - عليه السلام - فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا ، وغيروا ، ونقله بعض المفسرين . ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح . والذي نص عليه قوله : وظن داود أنما فتناه [ ص : 24 ] - إلى قوله - : وحسن مآب [ ص : 25 ] .

وقوله فيه : أواب . فمعنى فتناه : اختبرناه . وأواب : قال قتادة : مطيع . وهذا التفسير أولى .

وقال ابن عباس ، وابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك ، واكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، ونبهه عليه ، وأنكر عليه شغله بالدنيا ، وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره .

وقيل : خطبها على خطبته .

وقيل : بل أحب بقلبه أن يستشهد .

وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك [ ص : 25 ] فظلمه بقول خصمه .

وقيل : بل لما خشي على نفسه ، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا .

وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر ، وأبو تمام ، وغيرهما من المحققين .

وقال الداودي : ليس في قصة داود ، وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم .

وقيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نتاج غنم ، على ظاهر الآية .

وأما قصة يوسف ، وإخوته فليس على يوسف فيها تعقب ، وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فيلزم الكلام على أفعالهم . وذكر الأسباط ، وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل الأنبياء .

قال المفسرون : يريد من نبئ من أبناء الأسباط .

وقد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان ولهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به ، ولهذا قالوا : أرسله معنا غدا نرتع ونلعب ، وإن ثبتت لهم [ ص: 503 ] نبوة فبعد هذا والله أعلم .

وأما قول الله - تعالى - فيه : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه [ يوسف : 24 ] فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدثين أن هم النفس لا يؤاخذ به ، وليس سيئة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه : [ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ] ، فلا معصية في همه إذا .

وأما على مذهب المحققين من الفقهاء ، والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة . وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها ، وخواطرها فهو المعفو عنه .

هذا هو الحق ، فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ، ويكون قوله : وما أبرئ نفسي [ يوسف : 53 ] الآية . .

أي ما أبرئها من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع ، والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل ، وبرئ ، فكيف ، وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن يوسف لم يهم ، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير ، أي : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، وقد قال الله - تعالى - عن المرأة : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [ يوسف : 132 ] . وقال - تعالى - : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء [ يوسف : 24 ] . وقال - تعالى - : وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي [ يوسف : 23 ] الآية .

قيل في ربي : الله ، وقيل : الملك .

وقيل : هم بها ، أي بزجرها ، ووعظها

وقيل : هم بها ، أي غمها امتناعه عنها .

وقيل هم بها : نظر إليها .

وقيل : هم بضربها ، ودفعها .

وقيل : هذا كله كان قبل نبوته .

وقد ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه .

وأما خبر موسى - صلى الله عليه وسلم - مع قتيله الذي وكزه ، وقد نص الله - تعالى - أنه من عدوه ، وقيل : كان من القبط الذين على دين فرعون .

ودليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة موسى .

وقال قتادة : وكزه بالعصا ، ولم يتعمد قتله ، فعلى هذا لا معصية في ذلك .

وقوله : هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] . وقوله : ظلمت نفسي فاغفر لي [ القصص : 16 ] قال ابن جريج : قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر .

وقال النقاش : لم يقتله عن عمد مريدا للقتل ، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه ، قال : وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة ، وهو مقتضى التلاوة .

وقوله - تعالى - في قصته : وفتناك فتونا [ طه : 40 ] ، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء . قيل في هذه القصة ، وما جرى [ ص: 504 ] له مع فرعون ، وقيل : إلقاؤه في التابوت ، واليم ، وغير ذلك .

وقيل : معناه أخلصناك إخلاصا ، قاله ابن جبير ، ومجاهد ، من قولهم : فتنت الفضة في النار إذا خلصتها . وأصل الفتنة معنى الاختبار ، وإظهار ما بطن ، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره .

وكذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من أن ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها . . . الحديث . . ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدي ، وفعل ما لا يجب له ، إذ هو ظاهر الأمر ، بين الوجه ، جائز الفعل ، لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، وقد تصور له في صورة آدمي ، ولا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصور له فيها الملك امتحانا من الله ، فلما جاءه بعد ، وأعلمه الله - تعالى - أنه رسوله إليه استسلم .

وللمتقدمين ، والمتأخرين على هذا الحديث أجوبة هذا أسدها عندي ، وهو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري .

وقد تأوله قديما ابن عائشة ، وغيره على صكه ، ولطمه بالحجة ، وفقء عين حجته ، وهو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف .

وأما قصة سليمان وما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه ، وقوله : ولقد فتنا سليمان [ ص : 34 ] ، فمعناه ابتلينا ، وابتلاؤه : ما حكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله .

قال أصحاب المعاني : والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته ، ومحنته .

وقيل : بل مات فألقي على كرسيه ميتا .

وقيل : ذنبه حرصه على ذلك وتمنيه .

وقيل : لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، وغلب عليه من التمني .

وقيل : عقوبته أن سلب ملكه ، وذنبه أن أحب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم .

وقيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه . ولا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به ، وتسلطه على [ ص: 505 ] ملكه ، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه ، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا وقد عصم الأنبياء من مثله .

وإن سئل : لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة :

أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها ، وذلك لينفذ مراد الله .

والثاني : أنه لم يسمع صاحبه ، وشغل عنه .

وقوله : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ ص : 35 ] . لم يفعل هذا سليمان غيرة على الدنيا ، ولا نفاسة بها ، ولكن مقصده في ذلك على ما ذكره المفسرون أن لا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك .

وقيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة ، وخاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله ، ورسله بخواص منه .

وقيل : ليكون ذلك دليلا ، وحجة على نبوته ، كإلانة الحديد لأبيه ، وإحياء الموتى لعيسى ، واختصاص محمد - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة ، ونحو هذا .

وأما قصة نوح - عليه السلام - فظاهرة العذر ، وأنه أخذ فيها بالتأويل ، وظاهر اللفظ ، لقوله - تعالى - : وأهلك [ هود : 40 ] الآية . فطلب مقتضى هذا اللفظ وأراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله ، فبين الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره ، وعمله الذي هو غير صالح ، وقد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا ، ونهاه عن مخاطبته فيهم ، فأوخذ بهذا التأويل ، وعتب عليه ، وأشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه ، وكان نوح فيما حكاه النقاش لا يعلم بكفر ابنه .

وقيل في الآية غير هذا ، وكل هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله ، وإقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه ، ولا نهي عنه .

وما روي في الصحيح من أن نبيا قرصته نملة فحرق قرية النمل ، فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح . . . فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية ، بل فعل ما رآه مصلحة ، وصوابا بقتل من يؤذي جنسه ، ويمنع المنفعة مما أباح الله .

ألا ترى أن هذا النبي كان نازلا تحت الشجرة ، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه ، وليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر ، وترك التشفي ، كما قال - تعالى - : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين إذ ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاما لنفسه ، وقطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك ، ولم يأت في كل هذا أمر نهي عنه ، فيعصى به ، ولا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، ولا بالتوبة ، والاستغفار منه . والله أعلم .

فإن قيل : فما معنى قوله - عليه السلام - : ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فالجواب عنه : كما تقدم من ذنوب الأنبياء التي وقعت عن غير قصد وعن سهو وغفلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية