صفحة جزء
الفصل السابع : دراسة أحاديث أخرى

فإن قيل : فما وجه حديثه أيضا الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، [ حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن سالم مولى النصريين ] ، قال : سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إنما محمد بشر ، يغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة له ، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة .

وفي رواية : فأيما أحد دعوت عليه دعوة .

وفي رواية : ليس لها بأهل . وفي رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة وصلاة ورحمة .

وكيف يصح أن يلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يستحق اللعن ، ويسب من لا يستحق السب ، ويجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، وهو معصوم عن هذا كله ؟ .

فاعلم شرح الله صدرك أن قوله - صلى الله عليه وسلم - أولا : ليس لها بأهل ، أي عندك يا رب في باطن أمره ، فإن حكمه - صلى الله عليه وسلم - على الظاهر ، كما قال : وللحكمة التي ذكرناها ، فحكم - صلى الله عليه وسلم - بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما اقتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - لشفقته على أمته ، ورأفته ، ورحمته للمؤمنين التي وصفه الله بها ، وحذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة أن يجعل دعاءه ، ولعنه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه - صلى الله عليه وسلم - يحمله الغضب ، ويستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم .

وهذا معنى صحيح ، ولا يفهم من قوله : " أغضب كما يغضب البشر " ، أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، وأنه مما [ ص: 527 ] كان يحتمل ، ويجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه ، والعفو عنه .

وقد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف والحذر من تعدي حدود الله .

وقد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، ومن دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد ، والقصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، وليس المراد بها الإجابة ، كقوله : تربت يمينك .

ولا أشبع الله بطنك . وعقرى حلقى . وغيرها من دعواته .

وقد ورد في صفته في غير حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فحاشا ، وقال أنس لم يكن سبابا ، ولا فاحشا ، ولا لعانا ، وكان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ما له ! ترب جبينه ! .

فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق - صلى الله عليه وسلم - من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة ورحمة وقربة .

وقد يكون ذلك إشفاقا على المدعو عليه ، وتأنيسا له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف ، والحذر من لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس ، والقنوط .

وقد يكون ذلك سؤالا منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق ، وبوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه ، وتمحية لما اجترم ، وأن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو والغفران كما جاء في الحديث الآخر : ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة .

فإن قلت : فما معنى حديث الزبير ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث .

فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ندب الزبير أولا إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط ، والصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولج ، وقال ما لا يجب استوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه .

ولهذا ترجم البخاري [ ص: 528 ] على هذا الحديث : باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم .

وذكر في آخر الحديث : فاستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ للزبير حقه .

وقد جعل المسلمون هذا الحديث أصلا في قضيته .

وفيه الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في كل ما فعله في حال غضبه ، ورضاه ، وأنه وإن نهى أن يقضي القاضي ، وهو غضبان فإنه في حكمه في حال الغضب ، والرضى سواء لكونه فيهما معصوما . وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا إنما كان لله - تعالى - لا لنفسه ، كما جاء في الحديث .

وكذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل وقع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : وضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمدا ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعيذك بالله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله .

وكذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب - عليه السلام - الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينهاه ، ويقول له : تدرك حاجتك ، وهو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات .

وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يقف عند نهيه صواب ، وموضع أدب ، لكنه عليه الصلاة السلام : أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه .

وأما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا متخلق ، فقال عليه الصلاة والسلام : ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني .

قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه
.

وإنما ضربه - صلى الله عليه وسلم - لمنكر رآه به ، ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية