صفحة جزء
[ ص: 548 ] الفصل الثالث : حكم أسباب عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن بعض من أذاه

فإن قلت : فلم لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهودي الذي قال له : السام عليكم ، وهذا دعاء عليه ، ولا قتل الآخر الذي قال له : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، وقد تأذى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، وقال : قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، ولا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان .

فاعلم وفقنا الله وإياك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول الإسلام يستألف عليه الناس ، ويميل قلوبهم ، ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم ، ويداريهم ، ويقول لأصحابه : إنما بعثتم مبشرين ، ولم تبعثوا منفرين .

ويقول : يسروا ، ولا تعسروا ، وسكنوا ، ولا تنفروا .

ويقول : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .

وكان - صلى الله عليه وسلم - يداري الكفار والمنافقين ، ويجمل صحبتهم ، ويغضي عنهم ، ويحتمل من أذاهم ، ويصبر على جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه ، وكان يرفقهم بالعطاء والإحسان وبذلك أمره الله - تعالى - ، فقال - تعالى - : ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين [ المائدة : 13 ] .

وقال - تعالى - : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ فصلت : 34 ] .

وذلك لحاجة الناس للتألف أول الإسلام ، وجمع الكلمة عليه ، فلما استقر ، وأظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه ، واشتهر أمره ، كفعله بابن خطل ، ومن عهد بقتله يوم الفتح ، ومن أمكنه قتله غيلة من يهود ، وغيرهم ، أو غلبة ممن لم ينظمه قبل سلك صحبته ، والانخراط في جملة مظهري الإيمان به ممن كان يؤذيه ، كابن الأشرف وأبي رافع والنضر وعقبة .

وكذلك ندر دم جماعة سواهم ، ككعب بن زهير ، وابن الزبعري ، وغيرهما ممن آذاه حتى ألقوا بأيديهم ، ولقوه مسلمين .

وبواطن المنافقين مستترة ، وحكمه - صلى الله عليه وسلم - على الظاهر ، وأكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل منهم خفية ، ومع أمثاله ، ويحلفون عليها إذا نميت ، وينكرونها ، ويحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكان مع [ ص: 549 ] هذا يطمع في فيأتهم ، ورجوعهم إلى الإسلام ، وتوبتهم ، فيصبر - صلى الله عليه وسلم - على هناتهم ، وجفوتهم ، كما صبر أولو العزم من الرسل حتى فاء كثير منهم باطنا ، كما فاء ظاهرا ، وأخلص سرا كما أظهر جهرا ، ونفع الله بعد بكثير منهم ، وقام منهم للدين وزراء وأعوان وحماة وأنصار كما جاءت به الأخبار .

وبهذا أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال .

وقال : لعله لم يثبت عنده - صلى الله عليه وسلم - من أقوالهم ما رفع ، وإنما نقله الواحد ، ومن لم يصل رتبة الشهادة في مثل هذا الباب من صبي أو عبد أو امرأة ، والدماء لا تستباح إلا بعدلين .

وعلى هذا يحمل أمر اليهودي من السلام ، وأنهم لووا ألسنتهم ، ولم يبينوه ، ألا ترى كيف نبهت عليهعائشة ، ولو كان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه ، ولهذا نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على فعلهم ، وقلة صدقهم في سلامهم ، وخيانتهم في ذلك ليا بألسنتهم ، وطعنا في الدين ، فقال : إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول : السام عليكم ، فقولوا : عليكم .

وكذلك قال بعض أصحابنا البغداديين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم ، ولم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم ، فلذلك تركهم .

وأيضا فإن الأمر كان سرا وباطنا ، وظاهرهم الإسلام والإيمان وإن كان من أهل الذمة بالعهد والجوار ، والناس قريب عهدهم بالإسلام ، ولم يتميز بعد الخبيث من الطيب .

وقد شاع عن المذكورين في العرب كون من يتهم بالنفاق من جملة المؤمنين ، وصحابة سيد المرسلين ، وأنصار الدين بحكم ظاهرهم ، فلو قتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفاقهم ، وما يبدر منهم ، وعلمه بما أسروا في أنفسهم لوجد المنفر ما يقول ، ولا ارتاب الشارد ، وأرجف المعاند ، وارتاع من صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والدخول في الإسلام غير واحد ، ولزعم الزاعم ، وظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة ، وطلب أخذ الترة .

وقد رأيت معنى ما حررته منسوبا إلى مالك بن أنس - رحمه الله - ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه . وقال : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم .

وهذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا والقتل وشبهه ، لظهورها ، واستواء الناس في علمها .

وقد قال محمد بن المواز : لو أظهر المنافقون نفاقهم لقتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقاله القاضي أبو الحسن بن القصار .

وقال قتادة في تفسير قوله - تعالى - : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ ص: 550 ] [ الأحزاب : 60 - 62 ] الآية . .

قال : معناه إذا أظهروا النفاق .

وحكى محمد بن مسلمة في المبسوط ، عن زيد بن أسلم أن قوله - تعالى - : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ التوبة : 73 ] ، نسخها ما كان قبلها .

وقال بعض مشايخنا : لعل القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . وقوله : اعدل لم يفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - منه الطعن عليه والتهمة له ، وإنما رآها من وجه الغلط في الرأي وأمور الدنيا والاجتهاد في مصالح أهلها ، فلم ير ذلك سبا ، ورأى أنه من الأذى الذي له العفو عنه والصبر عليه ، فلذلك لم يعاقبه .

وكذلك يقال في اليهود إذا قالوا : السام عليكم ليس فيه صريح سب ولا دعاء إلا بما لا بد منه من الموت الذي لا بد من لحاقه جميع البشر .

وقيل : بل المراد تسأمون دينكم . والسأم والسآمة : الملال .

وهذا دعاء على سآمة الدين ليس بصريح سب ، ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث ، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال بعض علمائنا : وليس هذا بتعريض بالسب ، وإنما هو تعريض بالأذى .

قال القاضي أبو الفضل : قد قدمنا أن الأذى والسب في حقه - صلى الله عليه وسلم - سواء .

وقال القاضي أبو محمد بن نصر مجيبا عن هذا الحديث ببعض ما تقدم ، ثم قال : ولم يذكر في الحديث : هل كان هذا اليهودي من أهل العهد والذمة أو الحرب ، ولا يترك موجب الأدلة لأمر المحتمل .

والأولى في ذلك كله ، والأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف ، والمدارة على الدين لعلهم يؤمنون .

ولذلك ترجم البخاري على حديث القسمة ، والخوارج : باب من ترك قتال الخوارج للتألف .

ولئلا ينفر الناس عنه ، ولما ذكرنا معناه عن مالك ، وقررناه قبل .

وقد صبر لهم - صلى الله عليه وسلم - على سحره وسمه ، وهو أعظم من سبه إلى أن نصره الله عليهم ، وأذن له في قتل من حينه منهم ، وإنزالهم من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكتب على من شاء منهم الجلاء ، وأخرجهم من ديارهم ، وخرب بيوتهم بأيديهم ، وأيدي المؤمنين ، وكاشفهم بالسب ، فقال : يا إخوة القردة والخنازير ، وحكم فيهم سيوف المسلمين ، وأجلاهم من جوارهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى .

فإن قلت : فقد جاء في الحديث الصحيح ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله .

فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه ، فإن هذه من حرمات الله التي انتقم لها ، وإنما يكون ما لا ينتقم له فيما تعلق بسوء أدب ، أو معاملة من القول أو الفعل بالنفس والمال مما لم يقصد فاعله به [ ص: 551 ] أذاه ، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء والجهل أو جبل عليه البشر من الغفلة ، كجبذ الأعرابي بإزاره حتى أثر في عنقه ، وكرفع صوت الآخر عنده ، وكجحد الأعرابي شراءه منه فرسه التي شهد فيها خزيمة ، وكما كان من تظاهر زوجيه عليه ، وأشباه هذا مما يحسن الصفح عنه .

وقد قال بعض علمائنا : إن أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام لا يجوز بفعل مباح ، ولا غيره .

وأما غيره فيجوز بفعل مباح ما لا يجوز للإنسان فعله ، وإن تأذى به غيره . واحتج بعموم قوله - تعالى - : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة [ الأحزاب : 57 ] ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فاطمة : إنها بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها ، ألا وإني لا أحرم ما أحل الله ، ولكن لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل أبدا أو يكون هذا مما آذاه به كافر ، وجاء بعد ذلك إسلامه ، كعفوه عن اليهودي الذي سحره ، وعن الأعرابي الذي أراد قتله ، وعن اليهودية التي سمته ، وقد قيل : قتلها .

ومثل هذا مما يبلغه من أذى أهل الكتاب والمنافقين ، فصفح عنهم رجاء استئلافهم واستئلاف غيرهم كما قررناه قبل ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية