صفحة جزء
الفصل السابع : حكم من وصف نفسه بصفة من صفات الأنبياء عليهم السلام

الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصا ، ولا يذكر عيبا ولا سبا ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله - صلى الله عليه وسلم - الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل ، والحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبه به ، أو عند هضيمة نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي ، وطريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو على سبيل التمثيل ، وعدم التوقير لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أو على قصد الهزل والتنذير بقوله ، كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، وإن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ، ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله ، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله عن عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول المتنبي :


أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود



ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :


كنت موسى ، وافته بنت شعيب     غير أن ليس فيكما من فقير



على أن آخر البيت شديد وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفضيل حال غيره عليه . وكذلك قوله : [ ص: 556 ]

لولا انقطاع الوحي بعد محمد     قلنا محمد عن أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه     لم يأته برسالة جبريل



فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ، لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي ، والعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر استغناؤه عنها . وهذا أشد .

ونحو منه قول الآخر :


وإذا ما رفعت راياته     صفقت بين جناحي جبرين



وقول الآخر من أهل العصر :


فر من الخلد واستجار بنا     فصبر الله قلب رضوان



وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ، ووزيره أبي بكر بن زيدون :


كأن أبا بكر أبو بكر الرضا     ، وحسان حسان وأنت محمد



إلى أمثال هذا وإنما أكثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء ، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم ، ويحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم ، لاسيما الشعراء . وأشدهم فيه تصريحا ، وللسانه تسريحا ، ابن هانئ الأندلسي ، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر .

وقد أجبنا عنه ، وغرضنا الآن الكلام في الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ، ولا أضافت إلى الملائكة ، والأنبياء نقصا ، ولست أعني عجزي بيتي المعري ، ولا قصد قائلها إزراء وغضا ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزز حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الانتقاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف [ ص: 557 ] لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره ، وشرف قدره ، وألزم توقيره وبره ، ونهى عن جهر القول له ، ورفع الصوت عنده .

فحق هذا إن درئ عنه القتل : الأدب والسجن ، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ، ومألوف عادته لمثله ، أو ندوره وقرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :


فإن يك باقي سحر فرعون فيكم     فإن عصا موسى بكف خصيب



وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ! ، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته .

وذكر اليقتبي أن مما أخذ عليه أيضا ، وكفر فيه ، أو قارب قوله في محمد الأمين ، وتشبيهه إياه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال :


تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها     خلقا وخلقا كما قد الشراكان



وقد أنكروا عليه أيضا قوله :


كيف لا يدنيك من أمل     من رسول الله من نفره



لأن حق الرسول ، وموجب تعظيمه وإناقة منزلته أن يضاف إليه ، ولا يضاف .

فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس - رحمه الله - ، وأصحابه :

ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عير رجلا بالفقر ، فقال : تعيروني بالفقر ، وقد رعى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنم ؟ فقال مالك : قد عرض بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .

وقال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا . فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافرا ، فقال : " جعلت هذا مثلا ! " فعزله ، وقال : لا تكتب لي أبدا .

وقد كره سحنون أن [ ص: 558 ] يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التعجب إلا على طريق الثواب ، والاحتساب ، توقيرا له ، وتعظيما ، كما أمرنا الله .

وسئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان فقال : أي شيء أراد بهذا ، ونكير أحد فتاني القبر ، وهما ملكان فما الذي أراد ! أروع دخل عليه حين رآه من وجهه ؟ أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه ، فإن كان هذا فهو شديد ، لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين ، فهو أشد عقوبة ، وليس تصريح بالسب للملك ، وإنما السب واقع على المخاطب . وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، قال : وأما ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر حاله من عبوس الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته ، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، ولزومه في ظلمه صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله ، فيقول كأنه لله يغضب غضب مالك ، فيكون أخف ، وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ولو كان أثنى على العبوس بعبسته ، واحتج بصفة مالك كان أشد ، ويعاقب المعاقبة الشديدة ، وليس في هذا ذم للملك ، ولو قصد ذمه لقتل .

وقال أبو الحسن أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا ، فقال الرجل : اسكت ، فإنك أمي . فقال الشاب : أليس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أميا ! فشنع عليه مقاله ، وكفره الناس ، وأشفق الشاب مما قال ، وأظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ في استشهاده بصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكون النبي أميا آية له ، وكون هذا أميا نقيصة فيه وجهالة .

ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك ، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، وما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .

ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور - رحمه الله - في رجل تنقصه آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك ، وأنا بشر ، وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأفتاه بإطالة سجنه ، وإيجاع أدبه ، إذ لم يقصد السب ، وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية