صفحة جزء
الفصل الثالث : حكم تحقيق القول في إكفار المتأولين

في تحقيق القول في إكفار المتأولين .

قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أهل البدع والأهواء المتأولين ممن قال قولا يؤديه مساقه إلى كفر هو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه .

وعلى اختلافهم اختلف الفقهاء والمتكلمون في ذلك ، فمنهم من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف ، ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من سواد المؤمنين ، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وقالوا : هم فساق عصاة ضلال ، ونورثهم من المسلمين ، ونحكم لهم بأحكامهم ، ولهذا قال سحنون : لا إعادة على من صلى خلفهم ، قال : وهو قول جميع أصحاب مالك ، المغيرة وابن كنانة وأشهب ، قال : لأنه مسلم ، وذنبه لم يخرجه من الإسلام .

واضطرب آخرون في ذلك ، ووقفوا على القول بالتكفير أو ضده . واختلاف قولي مالك في ذلك ، وتوقفه عن إعادة الصلاة خلفهم منه ، وإلى نحو من هذا ذهب القاضي أبو بكر إمام أهل التحقيق ، والحق ، وقال : إنها من المعوصات ، إذا القوم لم يصرحوا بالكفر ، وإنما قالوا قولا يؤدي إليه .

واضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب قول إمامه مالك بن أنس حتى قال في بعض كلامه : إنهم على رأي من كفرهم بالتأويل لا تحل مناكحتهم ، ولا أكل ذبائحهم ، ولا الصلاة على ميتهم .

ويختلف في موارثتهم على الخلاف في [ ص: 583 ] ميراث المرتد .

وقال أيضا : نورث ميتهم ورثتهم من المسلمين ، ولا نورثهم من المسلمين ، وأكثر ميله إلى ترك التكفير بالمآل ، وكذلك اضطرب فيه قول شيخه أبي الحسن الأشعري ، وأكثر قوله ترك التكفير ، وأن الكفر خصلة واحدة ، وهو الجهل بوجود الباري - تعالى - .

وقال مرة : من اعتقد أن الله جسم أو المسيح أو بعض من يلقاه في الطرق ، فليس بعارف به ، وهو كافر .

ولمثل هذا ذهب أبو المعالي - رحمه الله - في أجوبته لأبي محمد عبد الحق ، وكان سأله عن المسألة ، واعتذر له بأن الغلط فيها يصعب ، لأن إدخال كافر في الملة ، أو إخراج مسلم عنها عظيم في الدين .

وقال غيرهما من المحققين : الذي يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : فإذا قالوها يعني الشهادة عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله .

فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة ، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع ، ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه . وألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل ، فما جاء منها في التصريح بكفر القدرية ، وقوله : لا سهم لهم في الإسلام ، وتسميته الرافضة بالشرك ، وإطلاق اللعنة عليهم ، وكذلك في الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء ، فقد يحتج بها من يقول بالتكفير ، وقد يجيب الآخر عنها بأنه قد ورد في الحديث مثل هذه الألفاظ في غير الكفرة على طريق التغليط ، وكفر دون كفر ، وإشراك دون إشراك .

وقد ورد مثله في الرياء وعقوق الوالدين والزوج والزور وغير معصية .

وإذا كان محتملا للأمرين فلا يقطع على أحدهما إلا بدليل قاطع .

وقوله في الخوارج : هم من شر البرية ، وهذه صفة الكفار .

وقال : شر قبيل تحت أديم السماء ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .

وقال : فإذا وجدتموهم فاقتلوهم قتل عاد .

وظاهر هذا الكفر لا سيما مع تشبيههم بعاد ، فيحتج به من يرى تكفيرهم ، فيقول له الآخر : إنما ذلك من قتلهم لخروجهم على المسلمين ، وبغيهم عليهم بدليله من الحديث نفسه : يقتلون أهل الإسلام ، فقتلهم هاهنا حد لا كفر .

وذكر عاد تشبيه للقتل وحله لا للمقتول ، وليس كل من حكم بقتله يحكم بكفره . ويعارضه بقول خالد في الحديث : دعني أضرب عنقه يا رسول الله . فقال : لعله يصلي .

فإن احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : يقرءون [ ص: 584 ] القرآن لا يجاوز حناجرهم فأخبر أن الإيمان لم يدخل قلوبهم .

وكذلك قوله : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون إليه حتى يعود السهم على فوقه .

وبقوله : سبق الفرث والدم يدل على أنه لم يتعلق من الإسلام بشيء .

أجابه الآخرون : إن معنى لا يجاوز حناجرهم : لا يفهمون معانيه بقلوبهم ، ولا تنشرح له صدورهم ، ولا تعمل به جوارحهم ، وعارضوهم بقوله ، ويتمارى في الفوق . وهذا يقتضي التشكك في حاله .

واحتجوا بقول أبي سعيد الخدري في هذا الحديث : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يخرج في هذه الأمة ، ولم يقل من هذه ، وتحرير أبي سعيد الرواية ، وإتقانه اللفظ .

أجابهم الآخرون بأن العبارة : بفي لا تقتضي تصريحا بكونهم من غير الأمة ، بخلاف لفظة من التي هي للتبعيض . وكونهم من الأمة مع أنه قد روي عن أبي ذر وعلي وأبي أمامة ، وغيرهم في هذا الحديث : يخرج من أمتي ، وسيكون من أمتي ، وحروف المعاني مشتركة ، فلا تعويل على إخراجهم من الأمة بـ [ في ] ، ولا على إدخالهم فيها بـ [ من ] ، لكن أبا سعيد - رضي الله عنه - أجاد ما شاء في التنبيه الذي نبه عليه . وهذا مما يدل على سعة فقه الصحابة ، وتحقيقهم للمعاني ، واستنباطها من الألفاظ ، وتحريرهم لها ، وتوقيهم في الرواية ، هذه المذاهب المعروفة لأهل السنة .

ولغيرهم من الفرق فيها مقالات كثيرة مضطربة سخيفة ، أقربها قول جهم ومحمد بن شبيب : إن الكفر بالله الجهل به ، لا يكفر أحد بغير ذلك .

وقال أبو الهذيل : إن كل متأول كان تأويله تشبيها لله بخلقه ، وتجويرا له في فعله وتكذيبا لخبره فهو كافر .

وكل من أثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو كافر .

وقال بعض المتكلمين : إن كان ممن عرف الأصل ، وبنى عليه ، وكان فيما هو من أوصاف الله فهو كافر ، وإن لم يكن من هذا الباب ففاسق ، إلا أن يكون ممن لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر .

وذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضة للتأويل ، [ ص: 585 ] وفارق في ذلك فرق الأمة ، إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد ، والمخطئ فيه آثم عاص فاسق . وإنما الخلاف في تكفيره .

وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني .

وقال : وحكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غيرهم .

وقال نحو هذا القول الجاحظ وثمامة ، في أن كثيرا من العامة والنساء والبله ، ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم ، إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال .

وقد نحا الغزالي من هذا المنحى في كتاب التفرقة .

وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود ، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك .

قال القاضي أبو بكر : لأن التوقيف والإجماع على كفرهم ، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف أو شك فيه . والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية